هناك إحساس دائم بالخوف والريبة يتملّك كثيرين من داعمي الثورة السورية، مفاده أن هذا الحدث لن يدوم طويلاً بوصفه ثورة، وسينقلب إلى اقتتال طائفي أو مذهبي يطيح بها وببطولاتها. فوفق مقولة «الانحراف» هذه، فإن ما يبدأ حدثاً سياسياً أو مطلباً إصلاحياً عاماً سرعان ما ينحرف عن مجراه ليصبح اقتتالاً عبثياً بين مجموعات أهلية، لا أفق له ولا مكان فيه لدعم أي طرف. ويمكن قراءة تاريخ منطقة المشرق العربي جزئياً من زاوية هذه اللغة المزدوجة، والتي مهما تمّ تحديثها وفق أيديولوجيات مختلفة، تنتهي دائماً إلى ذاك الوضوح القاتل. لمن يدعم الثورة السورية، يترجَم هذا التاريخ و «انحرافاته» بحالة انتظار لحظة الفراق مع فقدان «الثورة» دلالاتها المفتوحة وتحولها مرادفاً مهذّباً لإسم مجموعات مذهبية تقاتل مجموعات أخرى وتختبئ وراء كلمة «مقاومة». ولحظة الانتظار هذه ترويها كتابات بعض المثقفين اللبنانيين والسوريين عن الحرب الأهلية اللبنانية ومسلسل وداعاتهم المتتالية للخطاب «التقدمي» و «الثوري» تحت وطأة الواقع الطائفي، كما يشوبها الذعر من أن يصبح التشبث بالثورة كالإصرار على ترداد مقولات «الطبقة» في ظل الثمانينات السوداء، من دون الاكتراث بأن الواقع تجاوز تلك المعاني ومفرداتها. بات هذا الإحساس بالخوف والريبة يتزايد على أثر التطورات الأخيرة في سورية، حيث لم يعد ممكناً تجاوز المعضلة الطائفية أو حصرها بلوم النظام، وإن بقي هذا اللوم صحيحاً. فكما يشير الفيديو المسرّب عن اجتماع بين أهالي بعض القرى ومسؤولين أمنيين، لم يعد هناك فارق بين النظام والمنظومة الطائفية، حيث تتزاوج الصيحات الطائفية مع التوظيفات الإدارية والحرص على الموازنة العامة. وقد جاء «سقوط القصير» ليمزج بين المقاومة والمقامات الدينية وتوزيع البقلاوة المذهبي وليعمّق أكثر مسار التطييف الذي بدأه نظام الأسد. غير أنّ هذا المسار لم يعد حكراً على شبيحة النظام، بل استكمله بعض فصائل الثورة ليصبح مكتملاً بذاته ولا حاجة لديه لمن يحرّكه. تضع المعضلة الطائفية الثورة أمام تحدٍ قد يكون مستحيلاً. ففي الطور الأول للأحداث، كان التحدي لداعمي الثورة إثبات وجودها ثورة في وجه المشكّكين، وتأكيد الفارق الجوهري بين الثوار والنظام. أمّا الحد النقدي لهذا الدعم، فكان متمثلاً بضرورة اجتياز القرب من الحدث الذي فرضه مسلسل المجازر لحماية القدرة على نقد انتهاكات بعض الثوار وانزلاقاتهم. غير أنّ «المسافة النقدية» المطلوبة لم تتطلب الخروج من الثورة وعنها، بل كان النقد نابعاً من داخلها ومن قيمها المفترضة. بهذا المعنى، كان الدعم والنقد ينطلقان من الموقع ذاته، ويحدّدان مَنْ هو الثائر ومَنْ الذي خرج عن الثورة، من دون حاجة إلى ابتكار مكان خارجها للمحافظة على قدرة النقد. هذا الموقف لا يصلح في وجه المعضلة الطائفية المستجدّة وتحدياتها، وقد يتطلب إعادة تعريف المسافة النقدية المطلوبة. فلا تنفع في هذا الإطار المحاولات الكثيرة لشخصنة الطائفية أو إرجاعها إلى سبب يمكن عزله ومن ثم نبذه. فميزة الصراعات الطائفية أنّها تسخر من أصلها، وعندما ينغلق نظام الاقتتال الطائفي على نفسه وتتشابك علاقات المحاكاة بعضها ببعض، يصبح الاقتتال الطائفي مكتفياً بذاته، غير آبهٍ لأية عملية تفكيك تاريخية أو سياسية. فقد يكون للنظام الطائفي أب واحد، أكان النظام أم الغرب أم الرأسمالية المتوحشة أم الكولونيالية الاستشراقية، لكنّ لديه أطفالاً كثيرين، يستمرون في اللعبة بعد رحيل الأب. وإذا كان هناك درس واحد من التجربة اللبنانية، فهو أنّ لا أحد طائفياً وأنّ الكل طائفيون في آن ومن دون تناقض. هذه هي لغة الطائفية. نقد الطائفية لن يستطيع نفيها من خلال إرجاعها إلى سبب أوّلي يمكن نبذه، كما لا ينفع الهروب منها من خلال تكرار شعارات الديموقراطية أو الدولة المدنية كوصفة سحرية يراد منها أن تحل كل المشاكل. فالعودة إلى التجربة اللبنانية كفيلة بإظهار أن المنطق الطائفي يسري على سوية غير السوية التي تنتمي إليها السياسة، ما يسمح للغة المزدوجة بأن تصبح قاعدة اللعبة. فللواقع حقوق، لا يمكن التعاطي معها من خلال الهروب إلى ربوع الحلول الجاهزة. وبهذا المعنى، من يحصر رده في وجه المعضلة الطائفية بترداد شعارات الديموقراطية والدولة المدنية هو كالذي يحاسب الثورة على خروجها من الجوامع، وما ذلك إلاّ ترداد لعموميات أخلاقوية يراد منها أن تكون ذات بعد سياسي عميق. التعاطي مع التحدي الطائفي بات ملحّاً، بخاصة أنّ تلك المسألة أصبحت الخطر الفعلي الوحيد على الثورة. فالانتهاكات والضعف السياسي لممثلي الثورة، على رغم شناعة ذلك أو سخافته، لم تهدد صلب الثورة، كما أنّ الانتصارات الأخيرة للنظام غير كفيلة بإعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل اندلاعها. أمّا الاقتتال الطائفي، فكفيل بابتلاع الثورة والنظام والسياسة عموماً، ليفرض على مسار الأمور اتجاهاً مختلفاً. ذاك أنّ الفشل السياسي للمعارضة السورية يجعلها ثورة ضعيفة، ولكنّها تبقى ثورة. وبدوره، فالقمع المتزايد للنظام يجعلها ثورة مقموعة، ولكن تبقى ثورة. أما التطييف، فيُسقط صفة الثورة عن الأحداث وإن انتصرت مكوناتها. وهذا للقول ان على داعمي الثورة ابتكار رد على خطر الانزلاق الطائفي خارج لعبة اتهام النظام أو بعض الدخلاء على الثورة، ويتطلب ذلك إعادة تحديد المسافة النقدية التي تبقي على القرب الداعم للثورة لكنها تؤمّن مسافة لنقد انزلاق الوضع، وليس الثورة، إلى حرب طائفية. ويمكن القول، بلغة أخرى، إن التحدي يكمن في مزاوجة خطابين: خطاب الثورة بمفردات الشعب والنظام والحرية والتضحيات والبطولات ومنطقها الأفقي، وخطاب نقد الطائفية بمفردات الحوار والمساومة والأقليات والخوف ومنطقها التسطيحي. غير أنّ التجربة التاريخية ليست مشجعة تجاه إمكانية تجاوز المعضلة الطائفية، وغالباً ما انتهى الموضوع بخروج من السياسة باسم محاربة الطائفية. التحدي اليوم هو إمكانية التمسك بهذين النقدين، من دون تحويل كلمة «ثورة» إلى مجرّد مرادف للون طائفي من جهة، وعدم التضحية بها باسم الخروج من الصراعات الطائفية من جهة أخرى. إن كيفية التعاطي الواقعي مع الطائفية قد تكون اليوم شرط تطور الثورة.