تُلقي تداعيات «الربيع العربي» السلبية ظلالاً كثيفة على اقتصادات منطقة شمال إفريقيا الممتدة من مصر إلى المغرب، والتي باتت تواجه إملاءات وشروطاً مجحفة من مؤسسات التمويل الدولية وعلى رأسها صندوق النقد، الذي ينتقد تأخر حكومات هذه الدول في تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية المشروطة بمنح الدعم المالي لمعالجة شح السيولة من العملات الصعبة. ويُنتظر أن تحقق المنطقة نمواً متواضعاً عند نحو 2.5 في المئة هذه السنة و3.5 في المئة عام 2015، في ظل توقعات بتراجع التوترات السياسية وانفراج الأوضاع الاقتصادية في منطقة اليورو، الشريك التجاري الأول لشمال إفريقيا، في النصف الثاني من العقد الحالي. توترات عابرة للحدود وأظهر تقرير للبنك الدولي أن توقعات الآفاق المستقبلية في المنطقة يتوقف على تغيرات محلية وتوترات سياسية عابرة للحدود، وهي إشارة إلى أن الوضع السياسي في المنطقة لا يسعف النمو الاقتصادي ولا يشجع المستثمرين وأصحاب المشاريع ويعطل الإصلاحات ويزيد الضبابية. وأشار إلى أن الحراك الاجتماعي مازال بعد سنتين على النشاط الاقتصادي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، يعاني صعوبات نتيجة زيادة التوترات السياسية والاضطرابات المحلية. وعلى رغم ارتفاع أسعار الطاقة، فإن النمو لم يتجاوز 3.5 في المئة العام الماضي، بينما هبط إلى 2.5 في المئة في الجزائر و2.7 في المئة في المغرب بسبب الجفاف، و2.2 في المئة في مصر التي قد يتراجع فيها إلى 1.6 في المئة هذه السنة نتيجة التوترات السياسية وتفاقم الاختلال في الاقتصاد الكلي. وأوضح أن التحسن الزراعي قد يساعد في عودة النمو إلى الاقتصاد المغربي بسبب زيادة الطلب المحلي على المدى المتوسط، في حين لا تبدو تونس أحسن حالاً، فاقتصادها رهن توافق داخلي ونهاية الخلافات السياسية وعودة النمو إلى الاقتصادات الأوروبية، ولكنها مرشحة لزيادة النمو إذا تجاوزت المشاكل في النصف الثاني من العقد الجاري. وأجمع خبراء على أن الشكوك السياسية والاستقطاب الفكري والصراعات الداخلية تحد من قدرة اقتصادات شمال أفريقيا على التعافي في الأجل القريب، إضافة إلى احتمال تفاقم الخلل المالي وتراجع الاستثمارات وتأجيل الإصلاحات الهيكلية المطلوبة. ويكاد الوضع يتشابه في أكثر من بلد عربي، إذ طلب صندوق النقد من حكومات مصر وتونس والمغرب والأردن والجزائر مراجعة أنظمة دعم أسعار الغذاء والمحروقات، وهي شروط مسبقة لدعم تلك الدول مالياً ومنحها الغطاء الائتماني في السوق الدولية للاقتراض الخارجي والاستثمارات الأجنبية. ولفت الصندوق إلى أن كل تأخير في الإصلاحات قد يزيد أخطار الانزلاق المالي ويفاقم الحسابات الكلية لدى الدول المستوردة للطاقة، نتيجة ارتفاع تكاليف الاقتراض وتدهور أسعار الصرف، على رغم تراجع الأسعار العالمية، كما يزيد الوضع سوءاً استمرار الأزمة في منطقة اليورو، ما يقلص فرص تدفق الاستثمارات الأوروبية نحو شمال أفريقيا. وينعكس الوضع المالي والاقتصادي على الوضع الاجتماعي وتزايد عدد الفقراء والعاطلين من العمل الشباب من خريجي الجامعات، وهي فئة متعلمة تشعر بالظلم وكانت وراء الحراك الاجتماعي وتعتقد أن التيارات الإسلامية سلبت منها ثورتها وجعلت الاقتصاد في المرتبة الثانية، وحرفت الحراك عن أهدافه في التنمية والحرية والكرامة. وتبدو شمال إفريقيا من أكثر المناطق ضعفاً في خلق فرص عمل للشباب الجامعيين الذين تصل نسبة العاطلين من العمل بينهم إلى 33 في المئة، أي أكثر من إسبانيا، حيث تبلغ 27 في المئة. وأظهرت الإحصاءات أن هناك نحو 12 مليون شاب عاطل من العمل في دول اتحاد المغرب العربي الخمس، ما يشكل قنبلة موقوتة تهدد بربيع عربي جديد. المغرب وعلى رغم أن توقعات النمو في المغرب تبدو الأكبر بالنسبة للدول العربية المستوردة للنفط، فإن الخلافات السياسية تخيم على الاقتصاد بسبب تباعد المواقف بين الداعين إلى تحرير رفع الأسعار وإلغاء الدعم عن بعض السلع لمواجهة عجز ميزان نفقات «صندوق المقاصة»، وبين الداعين إلى الإبقاء على الدعم حماية للقدرة الشرائية للطبقات الوسطى، وتجنباً لأخطار اجتماعية غير محسوبة العواقب. ويشترط صندوق النقد على الرباط رفع الدعم عن الأسعار لتقليص العجز في مقابل الإبقاء على الخط الوقائي وقيمته 6،2 بليون دولار، في حين تنقسم الحكومة حول طريقة التعاطي مع شروط الصندوق، وتبدو التيارات الإسلامية أقرب إلى تقبل إملاءات المؤسسات المالية الدولية. وتوقعت المندوبية السامية في التخطيط أن ينمو الاقتصاد المغربي 4.6 في المئة هذه السنة، مع ارتفاع طفيف في معدلات التضخم وانخفاض في أداء القطاعات الإنتاجية غير الزراعية، في حين سيبلغ عجز ميزان المدفوعات 6.8 في المئة من الناتج الإجمالي وقد يرتفع إلى 7.4 في المئة العام المقبل.