حين يلاحظ المتفرج اسم «كيتانو أوفيس» في لائحة الشركات المنتجة لفيلم «لمسة الخطيئة»، سيتبادر إلى ذهنه من فوره أن الفيلم لن يكون خالياً من قدر كبير من العنف... وذلك لأن الاسم يحيل بالطبع إلى المخرج والمنتج الياباني تاكيشي كيتانو الذي تتميز أفلامه عادة بعنف مدهش. وستترسخ الفكرة أكثر على رغم أن المتفرج يعرف سلفاً أن الفيلم من إخراج الصيني جيا جانغكي، الذي لم يكن هذا النوع من العنف من سمات أي من أفلامه السابقة. والحال أن توقّع المتفرج لن يخيب حتى وإن كان سيكتشف في نهاية الأمر أن العنف المكثف الذي يملأ فيلم «لمسة الخطيئة» لا يمت بأي صلة إلى عنف سينما كيتانو، ولا حتى إلى العنف المستشري في سينما الأميركي كوينتن تارانتينو، حتى ولئن كان كثر من النقاد الأوروبيين الذين تناولوا فيلم جيا الجديد هذا، قد ربطوا بينه وبين سينما صاحب «أوغاد سيئو السمعة» و «عصيّة على الموت»... ومرجع سوء التفاهم الرئيسي في نظرنا هو أن العنف في سينما كيتانو وتارانتينو يتسم بمجانية فاقعة. أما نظيره في فيلم جيا جانغكي، فهو عنف اجتماعي يحيل إلى السياسة ويحاول أن يقول ما لا يجرؤ كثر من المبدعين الصينيين على قوله حول ما يحدث في الصين اليوم. في صين الدخول إلى اقتصاد السوق، وصين المعجزة الاقتصادية الجديدة. في اختصار: صين الرفاهية التي باتت منذ سنوات تنافس الولاياتالمتحدة الأميركية على مركز القمة في اقتصاديات العالم. مفاجأة وهنا، إن تركنا حديث السينما جانباً، بعض اللحظات بالنسبة إلى هذا الفيلم الذي خرج من لعبة التباري في الدورة الأخيرة لمهرجان «كان» السينمائي بجائزة السيناريو –وكان يستحق ما هو أكثر من ذلك-، سنقول إن المفاجأة الأساسية التي حملها هذا الفيلم تعلقت بوصوله حقاً إلى عروض المهرجان وعدم احتجاج سلطات بكين على ذلك. هو أمر نادر بالطبع، حيث من المعروف أن أنطمة شمولية مثل تلك التي تحكم في الصين وإيران، اعتادت أن تثير احتجاجات صاخبة في كل مرة عرض فيها مهرجان عالمي فيلماً يتحدث بوضوح عن عفن يتآكل مجتمعاتها... والذي يزيد من حدة الدهشة هنا في حالة هذا الفيلم الصيني، هو أنه أنتج وحُقّق في الصين نفسها من دون منع أو حذف... أما أهمية هذا الأمر، فمن الصعب إدراكها إلا لمن شاهد الفيلم نفسه ورصد كمَّ العنف والاحتجاج الاجتماعي اللذين يحملهما، ثم مدى تعبيره عما يحدث في الصين في زمن الرفاهية السعيدة الذي تعيشه. مهما يكن من أمر، يعرف متابعو سينما جيا جانغكي من ظهوره الأول على مسرح الفن السابع العالمي في العام 1998، أنها ليست من السينما التي تهادن... بل سينما تحاول أن تقول ما هو سيئ وضد الإنسان وقاتل للبيئة في مجتمع صيني يتغير بسرعة على وتيرة انخراطه في اقتصاديات السوق واللعبة الاستهلاكية بعدما تم دفن الماوية بكل جلال واحترام على يد أجيال جديدة من الشيوعيين «الواقعيين»... غير أن ما كان يلفت النظر حقاً، في أفلام جيا جانغكي السابقة، كان النعومة والهدوء اللذين بهما يعبر جيا عن مواقفه وانتقاداته، ولقد حماه أسلوبه هذا من عسف السلطات، التي لم تر غضاضة –بعد كل شيء– في أن يكشف مبدع من عندها عورات مرحلة انتقالية، كاشفاً عن الثمن الذي لا بد من دفعه مقابل الانفتاح على العالم. غير أن ما كان هادئاً ورقيق التعبير –ولا سيما حين يتعلق الموضوع بما يرصده المخرج من تدمير للبيئة والحياة الاجتماعية والأنماط الاقتصادية الفلاحية- في أفلام سابقة له، مثل «بلاتفورم» و «لذات مجهولة» و «طبيعة صامتة»، وصولا إلى «24 مدينة»، الذي كان في العام 2008 قد سبق «لمسة الخطيئة» في الوصول إلى المسابقة الرسمية في «كان»، بات اليوم أقل رقة بكثير وأكثر عنفاً في رصد بعض ما يحدث في الصين اليوم... بين الروائي والتسجيلي نعرف أن جيا جانغكي قد قسم سينماه دائماً بين أفلام وثائقية يسجل فيها واقع بلاده كما هو، وأفلام روائية يعيد فيها تركيب هذا الواقع. وهو في أحيان كثيرة كان يفضل المزج بين النوعين كأن «يركّب» حكاية روائية على خلفية واقع يرصده وثائقياً، كما فعل في «طبيعة صامتة»، التحفة السينمائية التي شاهدناها العام 2006 قي مهرجان مراكش بعد نيلها الجائزة الكبرى (الأسد الذهبي) في مهرجان البندقية لذلك العام... ففي هذا الفيلم، صور المخرج انهياراً بيئياً كاملاً عبر بناء سد عظيم، ولكن فقط على خلفية بحث امرأة عن زوجها... ولحد علمنا، بلغ هذا الفيلم في نقده للتحديث المهرول في الصين حدّاً لم يكن قد بلغه سينمائي سابق عليه على رغم معرفتنا أن السينما الصينية، سواء أصنعت في الصين القارية أو في هونغ كونغ أو حتى تايوان، لم توفر الحداثة الصينية في انتقاداتها. بيد أن جيا جانغكي تجاوز هذا الحد اليوم في «لمسة الخطيئة»، ولا سيما إن أدركنا أننا أمام فيلم روائي يمكن أن يشاهد جماهيرياً على نطاق واسع، وأن سمعته العالمية التي بدأت تتكون وتنتشر منذ عروضه الكانية لن تجعله يمرّ غير ملحوظ. ولكن، على رغم كل ما نقوله هنا، لا بد من المسارعة إلى القول إن «لمسة الخطيئة» من الممكن أن يعتبر من الآن وصاعداً أكثر أفلام جيا جانغكي واقعية وارتباطاً بما يحدث اليوم من تبدلات تصل إلى حد الامّساخ في المجتمعات الصينية... ونقول المجتمعات، لأننا هنا في الحقيقة أمام أربع حكايات منفصلة/ متصلة تشكل الفيلم، يجري كل واحدة منها في منطقة مختلفة من الصين. اما ما يجمع بين هذه المناطق، فإنما هو كونها المناطق التي تمسها حداثة السوق والاستهلاك أكثر من غيرها وأسرع من غيرها. أما القاسم المشترك بين الحكايات الأربع فهو العنف المرعب الذي تنتهي اليه كل حكاية... ناهيك بقاسم مشترك آخر لا يقل أهمية، بل يمكن أن نعتبره مفتاحاً لفهم خطورة هذا الفيلم في مجمله: الحكايات الأربع مأخوذة كما هي من سجلات البوليس وتتعلق بحوادث عيشت حقاً خلال أزمان مختلفة في السنوات الأخيرة. وإذا استثنينا الحكاية الأولى، التي تبدأ منذ مفتتح الفيلم بداية عنيفة، وتسقط قتلى في جرائم تبدو مجانية أول الأمر، على طريقة تارانتينو، سنجدنا في الحكايات التالية أمام بدايات لا تخلو من عادية مطمئنة، بل من سعادة الشخصيات، إذ تحصل على عمل أو ما يشبه ذلك...غير أننا وبالتدريج، بقدر ما نكتشف في الحكاية الأولى، انتقالاً مما هو «مجاني» إلى صلب ما هو اجتماعي، نتدرج في الحكايات التالية من عادية اليومي إلى عنف الاستثنائي... ولكن هنا أيضاً ليس العنف مجانياً، بل هو مرتبط بشكل مباشر بالواقع الاجتماعي الذي تعيشه شخصيات الحكايات –وهي نفسها ضحاياه، بالقتل أو الانتحار أو الوصول إلى تدمير الحياة من طريق ارتكاب جرائم قد تبدو غير متوقعة لكن ظروفها الاجتماعية سرعان ما تكشف حتميتها. والحال أن هذه الحتمية ما كان يمكن لها أن تكون مقنعة من حكاية إلى أخرى لولا قوة السيناريو، الذي عرف بلمسات خفيفة كيف يربط بين الحكاية والأخرى، ليس حدثياً ولكن سياسياً واجتماعياً طالما أن إمعاناً في تحليل منطق الفيلم واختياراته الحكائية يضعنا مباشرة أمام متهم أساسي: التغيّر المباغت الذي يطرأ على المجتمع الصيني... لا أكثر ولا أقلّ. ولعل من المفيد هنا أن نذكر أن السلطات الصينية نفسها تسمّي هذا النوع من الأحداث في سجلاتها الرسمية «توفا شيجيان»، ومعناها «أحداث مباغتة»، أما ما يريد الفيلم أن يخلص إليه هنا، فهو التساؤل من خلال ربط الأحداث وتوحيدها تحت لواء هذا الفيلم الرباعي، عما إذا كان يحق لنا حقاً أن نجدها «مباغتة» إلى هذا الحد؟؟! المصائر فمن داهاي، عامل المناجم الذي يحوله فساد المسؤولين في قريته إلى قاتل بالتسلسل، إلى صانئير، الذي سرعان ما يكتشف «الإمكانات المدهشة» التي يتيحها له استخدام سلاحه الناري في التحول من متلق إلى فاعل، إلى خياو يو، المضيفة في نادي الصونا التي سرعان ما تحولها تصرفات الزبائن من الأثرياء الجدد إلى قاتلة، لأنها ترفض أن تتحول إلى مومس... وصولاً أخيراً إلى الفتى خياو هوي، الذي يقوده تنقله من عمل فاشل إلى عمل أكثر فشلاً، ومن منطقة تحديثية إلى أخرى أكثر تحديثية، إلى الانتحار، يتنقل بنا الفيلم عبر تعدد المصائر إلى ما يشبه الصورة الإجمالية للصين كما باتت اليوم: صين الوفرة، التي بات فيها المكان واسعاً للتبدلات السوسيولوجية، ولكن ليس للفرد إن أراد أن يعيش حياته حقاً. والحقيقة أننا لسنا هنا أمام رسالة عادية عن بلد عادي في ظروف عادية، بل أمام فيلم كبير أراد فيه مخرجه أن يواصل سبره المرير لواقع الحال في إمبراطورية يخيّل إلى العالم أنها صارت واحدة من افضل العوالم الممكنة في زمننا الراهن.. جيا جانغكي: مهرجانات العالم تكافئ زعيم الجيل السادس إذا كان منطقياً ومتداوَلاً أن يُحسب المخرجون السينمائيون الصينيون تبعاً لتتالي اجيالهم، فإن هذه الحسبة تصل بنا اليوم الى الجيل السادس الذي تتراوح اعمار ابنائه بين الأربعين والخمسين وبدأ يطل على الساحة العالمية خلال السنوات العشر الأخيرة، ولا سيما بعد الشهرة العالمية التي كان حققها خلال الربع الأخير من القرن العشرين مخرجو الجيل الخامس الذين باتوا اليوم من كبار كلاسيكيي السينما العالمية وفي مقدّمهم دجانغ ييمو وشين كيغي. اما اليوم فإن جيا جانغكي صاحب «لمسة الخطيئة» المولود في العام 1970 في مدينة فنيانغ بأقليم شانغخي، يعتبر الأشهر بين مخرجي الجيل السادس الذي يضم الى جانبه عدداً من مبدعين لم يعد اي مهرجان سينمائي عالمي يخلو من فيلم لواحد منهم، ومن بين اشهرهم لو يي ووانغ خياوشواي ووانغ كوانعان وجانغ يوان... وإذا كان جيا قد كرس أفلامه الأولى ومنها «الثلاثية» التي تضم «نشال محترف» و «بلاتفورم» و «امام الجمهور» لرصد واقع العيش في مسقط رأسه، فإنه سرعان ما راح في أفلامه التالية يوسّع من دائرة مواضيعه وامكنتها الجغرافية مركزاً فيها على احوال المجتمع والبيئة متنقلاً بين سينما تسجيلية ناقدة للممارسات الفوقية لسلطات لا تتوققف عن تدمير البيئة لصالح حداثة مشوهة، وسينما روائية لا يفوتها ان تستقي مواضيعها من البيئة نفسها. والحقيقة ان سينما جيا التي ارتبطت على هذا الشكل ومنذ البداية بالواقع الإجتماعي للصين الحديثة المتغيرة، عرفت بسرعة كيف تفرض حضورها في المهرجانات العالمية ما وفّر لها نوعاً من الحصانة مكّن السلطات الصينية نفسها من ان تبدو ليبرالية بفضلها. وفي هذا الإطار لا بد ان نذكر ان مهرجانات كبرى مثل البندقية وبرلين وكان، تتهافت للحصول على افلام هذا المخرج في كل مرة يعلن فيها عن انجازه فيلماً جديداً له. وغالباً ما دخلت أفلامه المسابقات الرسمية في هذه المهرجانات حتى وإن لم يكن الفوز فيها من نصيبه دائماً. ومع هذا نال الرجل جائزته الأولى باكراً في العام 1998 في مهرجان برلين حيث أُعطيت جائزة نتباك وجائزة وولفغانغ لأول فيلم عرف له خارج بلاده «خياو وو، نشال محترف»، ليعود في العام 2006 ليفوز بأرفع جائزة في مهرجان البندقية «الأسد الذهبي» عن فيلم «طبيعة صامتة» الذي عاد مهرجان مراكش المغربي ومنحه إحدى جوائزه الرئيسة لاحقاً في العام نفسه. وبين الفيلمين فاز تسجيليّه «أمام الجمهور» بالجائزة الكبرى في مهرجان مرسيليا الفرنسي للسينما الوثائقية، وشاركت افلامه المتتالية «بلاتفورم» (2000) و «لذّات مجهولة» (2002) و «العالم» (2004) و «دونغ» (2006) على التوالي في المسابقات الرسمية في البندقية وكان. أما فيلمه الوثائقي «بلا فائدة» الذي حققه في العام 2007 فقد حصل على جائزة الفيلم الوثائقي في مهرجان البندقية قبل ان يعرض فيلمه الروائي/التسجيلي «24 مدينة» في مسابقة كان في العام 2008. ثم يعرض أخيراً فيلمه التالي «اتمنى لو كنت اعلم» العام 2010 في تظاهرة «نظرة ما» في كان ليخرج منها خالي الوفاض، ولكن ليعود هذا العام 2013 الى المهرجان نفسه بجديده – وربما اقوى واجمل افلامه حتى الآن – « لمسة الخطيئة» فيحقق به جائزة افضل سيناريو.