كعادته، «ظهر» حسن نصر الله على شاشات عملاقة توزعت على مدن لبنانية عدة، ليجلس أتباعه في قاعات كبيرة ويستمعوا إلى آخر تعليماته في الشؤون السياسية التي تهمه. سبق وأشرت إشارةً أولية إلى هذا الوضع «الامتيازي» الشاذ الذي لم يتمتع به أعتى المستبدين: بشر من لحم ودم يجتمعون في قاعات مغلقة لتخطب فيهم صورة الزعيم بدلاً منه. مع أنه كان أدعى لكرامتهم أن يجلسوا في بيوتهم ويتلقوا الخطاب ذاته، ما دامت المخاطر الأمنية تمنع الزعيم من الوقوف على منبر ومخاطبتهم وجهاً لوجه. في القاعة، سيكونون مجبرين على التصرف كما لو أنهم في حضرة الزعيم بشخصه. فيجلسون بخشوع، ولا يبتسمون إلا حين تبتسم لهم الصورة فتسمح لهم بمشاركته حس الفكاهة، ويصفقون حين تتمهل الصورة بعد «جملةٍ قوية» وتتوقع منهم الاستحسان والتصفيق. لعل، بل مرجح أن صاحب الصورة جالس في مكان ما يتابع ردود فعل جمهوره المختار على كلماته، فتسكره فصاحته وقدرته على الإقناع ومهارته في استدراج تصفيقهم. هو يختلف، في وضعه، عنهم. يستطيع أن يرتشف الشاي الساخن من كأسه، أو يغيّر طريقة جلوسه، في الوقت الذي تواصل فيه صورته إلقاء الخطاب، والجمهور المجتمع في القاعات مرغم على الجلوس المتعِب أمام الشاشة. يستمد نصر الله الثقة الذاتية التي يظهرها عادةً في ظهوراته، من هذا الجمهور الخاص الذي يخاطبه. فهو يعرفه جيداً. ربما لا يعرفهم شخصياً فرداً فرداً، لكنه سبق و «ربّاهم على يديه» كما يقال. مجرد قبولهم بدخول قاعة لتلقي خطاب صورة على شاشة تلفزيون، يعني أنهم مبرمجون جيداً على الخضوع لكل ما سيأتيهم عبر الصورة من أحكام وتعليمات. دخل الزعيم استديو التسجيل، هذه المرة، وهو مسلح بفتاوى مرجعيات إيرانية وعراقية بتحريم إطلاق النار في المناسبات السعيدة والحزينة، بعدما أعيته الحيلة في إقناع جمهوره بالكف عن إطلاق الرصاص في الهواء، بحجج القانون والأخلاق وغيرها... هذا ما قالته الصورة. كان حديث صورة الزعيم عن هذا الموضوع الغريب غريباً، من شأنه أن يثير تساؤلات الخبثاء والظرفاء من خصوم «حزب الله» المتلهفين لتصيد عثراتهم: ترى، هل يعاني الحزب من شح في الذخائر؟ أم أنه توجيه غير مباشر يستحسن الاحتفال بتوزيع البقلاوة أو القهوة المرّة (وفق نوع المناسبة: تحقيق نصر عسكري على السوريين أو تشييع قتلى الحزب من المجاهدين في أرض الشام) بدلاً من إطلاق الرصاص الثمين في الهواء؟ أم أن هذا المدخل المسلّي كان مجرد تمهيد للفقرة التالية التي سيضطر فيها لاستنكار قتل هاشم السلمان أمام السفارة الإيرانية، ليقول إنه لم يكن مقصوداً؟ غير أنه، بعيداً من تلك الثقة بالذات التي تظهر على نصر الله عادةً، كان مضمون خطابه الأخير يحمل الكثير من الأسى والحس التراجيدي لقائد يرى القدر الغاشم أمامه فلا يستطيع أن يتراجع. استرسل الرجل مطولاً في التذكير بال «cv» المقاوم لحزبه، وأفضاله على اللبنانيين، طالباً من المثقفين والمفكرين والصحافيين والفنانين وعامة الناس جميعاً أن يدوّنوا هذا التاريخ المجيد المحفور في جرح كل شهيد حي من شهداء الحزب. فهو يتعرض لحملة تشويه كبيرة تجب مواجهتها، على ما قال. لا شك في أن التجربة الغنية لنصر الله في قيادة سفينة حزبه طوال ثلاثة عقود، في بحر متلاطم الأمواج، قد أكسبته بصيرة نافذة، يدرك بها أن ورطته في المستنقع السوري ستضع نهاية للمغامرة الإيرانية في لبنان. يستشف الرجل أن نظام دمشق الذي دخل «حزب الله» سورية دفاعاً عنه ك «حصوةٍ تسند جرة» هو نظام ساقط وجرّة تحطمت ولا سبيل لإعادة تركيبها. فإذا كان قد كرر مرتين في خطابه أن هجوم الآخرين على موقف الحزب في سورية لن يغير منه، فهذا يعني أنه مجبر على الموقف، ولا يستطيع تغييره مهما كان الثمن. هذا على أي حال ما يخمّنه كثيرون. فقرار الحزب بيد من صنع الحزب وموّله طوال ثلاثة عقود. قرأت في الأسى الذي انطوى عليه الخطاب، معاني الوداع. وداع لبنان بلا رجعة. فبعد قرار مجلس الأمن 1701 الذي طرد الحزب إلى شمال نهر الليطاني في خاتمة نصره الإلهي على إسرائيل في 2006، يأتي القرار الإيراني بتهجير الحزب من لبنان إلى سورية لينتهي هناك مع نهاية نظام عائلة الأسد. لا شك في أن الإسرائيليين والأميركيين الذين بذلوا، في العقود الماضية، كل الجهود لاقتلاع الحزب الإيراني من لبنان وفشلوا في ذلك، سيسرهم انتحاره في سورية. لا شك أيضاً في أن اللبنانيين الذين عانوا الأمرّين على يد الحزب الطائفي المسلح، وبخاصة منذ اغتيال رفيق الحريري، وفشلوا في انتزاع سلاحه الذي احتل به بيروت ذات يوم غير بعيد، سيسرهم أيضاً نحره بقرار إيراني. أما السوريون الذين تعرضوا لغدر الحزب أثناء ثورتهم على نظام بشار، فسيقع على عاتقهم تنفيذ حكم التاريخ فيه. * كاتب سوري