أن تكتب عن «مدينة» في هذا العالم لأنها أعجبتك أو لم تعجبك، فإن كتابتك لا تحتمل تفسيرات مبطنة أو لمزات سياسية إلا إذا كانت المدينة عربية، وعلى الخصوص خليجية. يمكنك أن تكتب مثلاً عن إعجابك بمدينة برلين أو باريس، أو عن عدم إعجابك بفرانكفورت أو مدريد، وأنت مرتاح لا يضغط عليك أثناء الكتابة هاجس التأويل النفعي أو المُعارض. لكنك حين تكتب عن مدينة عربية ستجد أن حاكم المدينة مستلقٍ على سطور مقالك... ترغيباً أو ترهيباً، أو هكذا يخّيل إليك. القارئ الفطن لن يحتاج مني بالطبع إلى تفسير لأسباب هذه الوضعية المقارنة بين الحالتين! أضع هذه التوطئة الاحترازية كي أكتب عن مدينة دبي، وأنا أتمنى بصدق أن لا يقرأ حاكم دبي مقالتي هذه... فقط كي آخذ راحتي في الكتابة من دون أي تأويل. مقالتي اليوم ليست نتاج زيارة إلى دبي تعقبها مدائحية تفصيلية للمشاهدات، بل هي محاولة لمعالجة حالة الإحباط العربي من إمكانية نجاح أي تجربة تنموية. قبل أقل من ثلاثين عاماً لم يكن اسم دبي شيئاً مذكوراً في أحاديث العرب، واليوم أصبحت ملء سمع وبصر العرب وغير العرب. ما الذي جرى؟! كيف استطاعت هذه المدينة الترابية سابقاً أن تصبح مدينة ناطحات السحاب والبحيرات والأرصفة الفاخرة؟ كيف استطاعت المدينة المغمورة أن تخرج من خلف الكواليس لتصبح مصدراً للكوابيس لدى المدن الأخرى المشهورة؟! ومما يزيد من تعقيدات الإجابة عن أسئلة تفوّق دبي، أن التفسير النفطي ليس موجوداً في المعادلة هذه المرة! دعونا نحاول سويّاً اكتشاف السر: (ما هي وظيفة الحكومة؟)... هكذا يسأل حاكم دبي / محمد بن راشد آل مكتوم، بكل بساطة هذا السؤال المعقّد. ثم يجيب: وظيفة الحكومة هي تحقيق السعادة للمجتمع. نعم، عملنا اليومي هو تحقيق السعادة. ثم يفسّر حاكم دبي (في كتابه: ومضات من فكر) إجابته الآنفة هكذا: «عندما تطور الحكومات نفسها وخدماتها لتسهل حياة الناس فإنها تحقق لهم الراحة والسعادة. عندما تخلق الحكومات الفرص لأبناء الوطن فإنها تحقق لهم السعادة. عندما تقدم الحكومات أفضل أنظمة التعليم لأبناء الوطن فإنها تزودهم بأهم أسلحة بناء مستقبلهم ليكونوا سعداء. عندما تقدم الحكومات رعاية صحية متميزة فلا شيء أكثر إسعاداً للمريض من الشفاء والراحة. عندما تطور الحكومات البنى التحتية فإنها تختصر المسافات وتقرّب البعيد وتقلّل الأوقات الضائعة من أعمار الناس ولا شك أن ذلك سيسهم في سعادتهم وراحتهم. عندما يتحقق العدل ويجد المظلوم حقه بسهولة ويسر فإن هذا يحقق السعادة والاطمئنان للمجتمع بأسره». ما الجديد في قول حاكم دبي، إذ هو ما قاله وأصّله منذ سنين طويلة أرسطو وميكيافيلي وابن خلدون والماوردي الذي وضع على رأس مهام الوالي في كتابه عن الأحكام السلطانية: (أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور، وتصفح الأحوال، لينهض بسياسة الأمة وحراسة الملة، ولا يعوِّل على التفويض تشاغلاً بلذَّة أو عبادة، فقد يخون الأمين ويغش الناصح). كما أجزم بأن معظم حكام المدن العربية يجيدون قول ما قاله حاكم دبي، بل ربما قالوا ما هو أجود بحكم احترافيتهم في صنع السعادة القوليّة! السر يكمن في القدرة على صلابة الانتقال من القول إلى العمل. وفي مهارة الاستثمار في الأفكار. دبي ليست جنة الله في أرضه، كما أنها ليست خالية من الشياطين... خصوصاً شياطين التفاصيل(!)، لكنها بلا شك مدينة «النجاح»، وهنا يكمن السر... السر الذي يجلب السعادة. في عقود مضت، كان الحديث عن تنمية المدن العربية وتطوير وإسعاد شعوبها يتعثّر بأعذار الشحّ المالي لدى المدن الفقيرة، أو بأعذار شح المجد التاريخي لدى المدن الغنية. الآن جاءت مدينة دبي لتلغي كافة الحجج، فهي ليست مدينة نائمة على آبار نفط تُرويها بالأموال، كما أنها ليست قاهرة المعز أو بغداد المأمون بمجدهما العتيق، بل هي دبي التي صنعت مجدها الجديد الآن فقط. كنا من قبل نلوم المدن الغنية فقط إذا لم تحقق تقدماً تنموياً، الآن سيعمّ اللوم على كل المدن العربية لأننا اكتشفنا أن كل مدينة قادرة أن تتطور إذا أراد حاكمها ذلك... حتى لو كان هذا ضد إرادة وزير المالية، لأن وزير المالية قد يمنع الأموال لكنه لا يستطيع أن يمنع الأفكار. فإذا كانت الأموال تغذي الأفكار... فإن الأفكار تلد الأموال. وكلما أراد حاكم أو إنسان عربي أن يوجِد الأعذار لعدم تطوير مدينته أو مؤسسته أو حارته سنقول له: هذه دبي... ألغت كل الأعذار. أكرر مجدداً أمنيتي الصادقة بأن لا يقرأ حاكم دبي مقالي هذا حتى لا يكون مرتبطاً ب «منفعة»، لكن أتمنى أن يقرأه الآخرون حتى لا يصبح المقال بلا منفعة. * كاتب سعودي twitter | @ziadaldrees