ورطة رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان مع موجة الغضب في الشارع ربما ذكّرته- ولو أنكر- بورطة قادة في دول «الربيع العربي» مع طوفان تظاهرات اقتلعهم... الفارق أن «ربيع» أردوغان الذي يعترف به وحده، هو الذي «صنعه» منذ فاز حزب العدالة والتنمية بانتخابات، مكّنته ولا تزال، من السلطة منذ نحو عقد. أردوغان، ولو أنكر، بسقطته المريعة حين وصف متظاهرين في اسطنبول بأنهم «حفنة لصوص»، يذكّر العرب المحاصرين بزلزال «ربيعهم» وفوضاه، ببعض مَنْ أطاحتهم الثورات، وسبقوه إلى لغة تحقير مَنْ في الشارع، والاستعلاء على الغاضبين، وتحدِّيهم... والأهم الاحتماء بمنطق مقاومة «مؤامرة»، بعض رياحها يهبّ من الخارج. والخارج بلغة أردوغان، لا بد أن يكون خصمه اللدود النظام السوري «العلماني»، الذي استقبل قبل أسابيع قليلة وفداً من المعارضة التركية. وهي المعارضة ذاتها المؤتلفة مع اليسار في ستة أيام هزت تركيا «العدالة والتنمية» والازدهار والسياحة، والانتعاش الاقتصادي. يكرر رئيس الوزراء «لعبة» مارسها النظام السوري ذاته الذي وصف المتظاهرين بأنهم أدوات ل «مؤامرة» قبل ان تنقلب الثورة حرباً بشعة بفظاعتها ومآسيها. والوهم أن يخال أردوغان أن وراء الحشود التي تحاول الاقتراب من مكتبه في أنقرة، أصابع دمشق الساعية الى ثأرٍ حان موعده... وإن كانت تتمنى إطاحة «السلطان». الوهم ان يخدع رئيس الوزراء نفسه، ولا يتذكّر كم استعدى القوميين الأتراك بصفقة «التسوية» مع حزب العمال الكردستاني وزعيمه عبدالله أوجلان، وكم استعدى العلمانيين بتحجيمهم، وإقصاء قبضة المؤسسة العسكرية التي كانوا يعتبرونها حارساً للجمهورية، وقلاعها مبادئ الدستور التي أرساها مصطفى كمال أتاتورك. والوهم الخديعة ألا يتذكر أردوغان في البحث عن جذور رياح الغضب التي قسّمت «ساحة تقسيم» في اسطنبول، كم استعدى من الصحافيين والقضاة... وكل ذلك تحت راية استعادة أمجاد كانت في حقبةٍ للعثمانيين قبل مرض امبراطوريتهم. وإن شُبِّه إسلاميو «العدالة والتنمية» الأتراك ب «الإخوان المسلمين» في العالم العربي، فالحال أن تركيا أردوغان هي التي بادرت بعد ترددٍ الى مد يدها ل «إخوان» مصر وتونس وليبيا، ثم تبوّأت مكانة عرّاب لهم. ولعل رئيس الوزراء العائد اليوم إلى بلاده من جولته المغاربية، يشعر برياحهم في بيته، وتذكّره هتافات «إرحل» بحسني مبارك وزين العابدين بن علي وحتى القذافي. صحيح أن أردوغان لم يتورط بالفساد والقمع المباشر لخصومه السياسيين، وأن النهج الاقتصادي لحكومته منح تركيا حضوراً دولياً مزدهراً، لكن ما يُحسَب في غير مصلحته قلَبَ سياسة «صفر مشاكل» الى ديبلوماسية متعثرة في الخارج. وإن كان أبرز المآزق، التخبط في ديبلوماسية تحدي إسرائيل، والصراع الصامت مع إيران في العراق، والتأزم مع حكومة نوري المالكي، وإطلاق وعود كبيرة للمعارضة السورية، مثل «الأيام المعدودة» للنظام في دمشق... فالحال أن أردوغان الذي «أصبح لا يفكر» (بيان اتحاد نقابات القطاع العام التركي) اجتهد من دون علمه، في تضخيم الذات، واستنساخ خصومه في الداخل. ستة أيام هزت «امبراطورية السلطان» أردوغان، وفي سقطته بالهجوم على «اللصوص» حماة البيئة في اسطنبول، لم يستطع حتى الرئيس عبدالله غل الدفاع عنه. يحل «ربيع اسطنبول» فيما رأس الحكومة يستعد لمهمات الرئيس بعد تعديل دستوري. هي «المؤامرة» إذاً، وجدها أردوغان المتهم بالتسلط. ألم تكن تلك التهمة ذاتها التي وصم بها النظام في دمشق، لينحاز الى شعب سورية؟ بداهةً، شتّان بين قنابل الغاز في ساحة تقسيم، وقنابل «الميغ» وصواريخ «غراد» في حمص وحلب وريف دمشق، و «إخوان» تركيا ليسوا نسخة عن «الإخوان المسلمين» العرب. ولأنهم كذلك، واضح أن «كبش فداء» في السلطة وعلى رأس الشرطة سيدفع الثمن، لتبديد الغضب على مضيق البوسفور. ولكن، هل يسمح بذلك عناد زعيم «العدالة» الذي لم يلتقط رسالة الاحتجاجات... وعنوانها الأول أن الشبان الأتراك لا يغريهم قفصٌ من ذهب، بلا حريات، وأن أي معارضة لا يمكن شطبها الى الأبد، في أي مكان من العالم. ذروة الغضب وخطورته، أن تنقلب الخلافات الى فصول استفزاز تستدرج تصفية الخصم سياسياً، وفي الشارع. أما مناصرة «الربيع» في الجوار فلا تعطي حصانة في الداخل... لعل غل نفسه أضاف كابوساً آخر لدى أردوغان، حين فَهِم ما لم يفهمه شريكه.