عندما انسحب أنور السادات من الصراع الذي كان اسمه عربياً - إسرائيلياً، رفع شعار التفرغ للإعمار في ظل السلام، واستخدام أموال الحروب في التنمية. شعار دغدغ أحلام المصريين العاديين الفقراء، وبرر انحراف طبقة من السياسيين والمثقفين لم يكونوا يوماً مع المسألة الفلسطينية فوجدوا لأنفسهم مكاناً في نظام «مصر أولاً». لم يأخذ هؤلاء السياسيون والمثقفون تاريخ بلادهم القديم والحديث ولا استراتيجيتها التي تجلت في كل العهود، من الفاطميين إلى المماليك ومحمد علي، في الاعتبار، كي لا نذهب أبعد من ذلك في التاريخ القديم، الذي يعود إلى عهد الفراعنة. تقوم هذه الإستراتيجية على حماية سيناء وبلاد الشام من جهة، وأفريقيا من جهة أخرى. خُيِّل لهؤلاء أن المصالحة مع إسرائيل ستخرج مصر من واقعها الجغرافي والتاريخي، فاستبدلوا الواقع بأوهام لم تثبت طويلاً. لا الشعب عاش برخاء بعد كامب ديفيد، ولا إسرائيل كفت عن عدائها. بل حاولت إحكام حصارها على مصر من كل الجهات: من جهة سيناء، حيث تنص الاتفاقات على عدم السماح للجيش المصري بالتحرك بحرية، وحيث نشأت دويلة يخطَّط لها أن تكون جزءاً من وطن بديل للفلسطينيين في غزة. أما من جهة أفريقيا، فكانت عين إسرائيل على بحيرة فيكتوريا ومنابع النيل والمحيط المباشر لمصر، فأقامت علاقات متينة مع كل الدول الواقعة على ضفاف النهر ومنابعه، وحرضتها ضد «الاستعمار المصري»، فدعمت كل الحركات المناهضة لحكومات دعمها عبد الناصر خلال مرحلة التحرر من الاستعمار، ومنها الحركة الانفصالية في جنوب السودان، فسلحتها ودعمتها سياسياً ومالياً، وهي الآن تستغل نفوذها في الدولة الجديدة وتبذل جهودها لانفصال دارفور عن الخرطوم، فزعيم حركة تحرير هذا الجزء من السودان عبد الواحد محمد نور، لا يغادر تل أبيب حتى يعود إليها لتلقي التعليمات (أسوة بسيلفا كير)، وليس سراً أن الموساد وضباطاً من «جيش الدفاع» يدربون مقاتلي نور ويقودون بعض معاركهم. واقع الأمر أن إسرائيل بنت استراتيجيتها منذ تأسيسها على محاصرة مصر وبلاد الشام بطوق معاد كان مكوناً من تركيا وإيران الشاه وأثيوبيا، وبعد الثورة الإيرانية متنت علاقاتها بأنقرة وأديس أبابا لتعويض الحليف في طهران. عمر هذا التحرك الإسرائيلي من عمر الدولة اليهودية، تصدى له عبد الناصر بكل قوته وتحالفاته، وبحركة عدم الانحياز، التي ضمت معظم الدول الأفريقية والآسيوية وعدداً من دول أميركا الجنوبية المتحررة من الهيمنة الأميركية. لكن السادات وضع حداً لكل هذه السياسة الإستراتيجية، فلم يعبأ بأفريقيا ولا ببلاد الشام، ولم يكترث خَلَفه بالأمر، حتى حين احتلت إسرائيل لبنان، ولم يعبأ بأفريقيا، مكتفياً بتسوية الصراع بين الأبناء ورجال الأعمال وإدارة اللعبة التجارية والمالية وتوزيعها على كبار الضباط. أدرك المصريون خطأ هذه السياسة وخطرها على أمنهم الوطني، فنزلوا إلى الميادين لإصلاح ما يمكن إصلاحه، لكن الثورة المضادة كانت أقوى منهم، ومن تولى الحكم بعد الثورة كان كل همه التمسك بالسلطة وبالاتفاقات الموقعة مع إسرائيل واستمرار واشنطن بدعمها المالي، وهي رشوة للابتعاد عن الصراع. بعد هذا المسار الطويل من التفريط بالأمن الوطني، وهو موثّق في الكتب والدراسات، لا يحق للنظام الجديد في القاهرة أن يفاجَأ بأثيوبيا تبني، بالتعاون مع إسرائيل، سداً على النيل أقل ما يقال فيه إن هدفه تجويع المصريين وتحويل بلادهم إلى صحراء. طويلاً «نامت نواطير مصر عن ثعالبها» فهل يوقظها السد الأثيوبي؟