ملف العلاقات المصرية السودانية مرشح بقوة لأن يحتل موقعاً بارزاً في كتاب الدهشة، من حيث إنه محمل بأثقال الماضي بأكثر منه مستجيب لاستحقاقات الحاضر والمستقبل. هل يمكن أن يكون هناك حضور الصين في السودان أقوى من الحضور المصري، بحيث تفتح معاهد لتعليم اللغة الصينية في حين يغلق فرع جامعة القاهرة في الخرطوم؟ ولماذا أصبح الماليزيون يديرون واحدا من أهم فنادق العاصمة السودانية بينما ينحصر أبرز وجود لمصر في الشمال في وفرة عمال البناء؟ وهل يعقل أن تستمر "إسرائيل" طوال الخمسين سنة الأخيرة في نصب شباكها حول السودان وتنجح في اختراق أطرافه، في حين تستمر مصر في الانسحاب منه والانصراف عنه؟ ولماذا فشل البلدان "الشقيقان" في إقامة علاقة ناجحة منذ استقلال السودان قبل أكثر من خمسين عاما وحتى الآن؟ لست في وارد الإجابة عن الأسئلة التي ظلت تلح عليّ أثناء زيارة الخرطوم وبعدها. وإن كنت لا أخفي أن فيها من الاستنكار أكثر مما فيها من الاستفهام. لكني أزعم أن استدعاء السياق التاريخي قد يكون عنصراً مساعداً على فهمها بصورة أفضل. ذلك أن خلفية علاقات البلدين مرت بأطوار عدة، لاتزال أصداؤها حاضرة في الإدراك المتبادل بين البلدين. ومما يجدر ذكره في هذا الصدد أن كثيرين من المثقفين المصريين والسودانيين لا يعرفون أن السودان الحديث هو في حقيقة الأمر أحد مشروعات النخبة التركية المتمصرة بقيادة محمد علي باشا. ذلك أنه لم توجد دولة باسم السودان قبل مجيء محمد علي وأحفاده إلى منابع النيل، حيث كانت الدولة التي تجاور مصر جنوبا هي سلطنة الفونج التي تمتد حدودها ما بين وادي حلفا وتخوم سنار. وإلى غربها كانت توجد سلطنة كردفان بقيادة المقدوم مسلم، ثم سلطنة دارفور التي كانت تتواصل مع مصر عن طريق درب الأربعين أي درب الأربعين يوما وهي الفترة التي تستغرقها رحلة القوافل للوصول إلى الحدود المصرية في الفاشر. وجنوبا كانت القبائل الجنوبية تعيش كما خلقها الله سبحانه وتعالى كتجمعات لا تعرف الدولة أو السلطة المركزية، ولكل لهجته وعاداته وطرائقه في الحياة. تمكنت مصر من لم هذه المكونات الجغرافية والبشرية على مراحل مختلفة، ابتداء من عام 1820 إلى عام ،1874 ثم أطلق عليها الخديو إسماعيل في أحد فرماناته اسم "السودان المصري". واستمر الحال كذلك إلى أن اندلعت الثورة المهدية، التي لم يسع برنامجها الروحي والسياسي إلى قطيعة مع مصر، بل إلى زيادة التواصل معها عن طريق إقامة دولة إسلامية متحدة بين مصر والسودان. حين سقط مشروع الثورة المهدية الذي عبر عن الشوق لإقامة دولة متحدة على وادي النيل، فإنه أفسح الطريق أمام دولة الحكم الثنائي ابتداء من عام ،1899 التي كانت في حقيقتها حكماً انجليزياً روحاً وإدارة، إذ لم يكن لمصر من نصيب في إدارة السودان إلا دفع تكاليف إدارة شؤون البلاد من الخزينة المصرية. لذلك فإن مشروع السودان الحديث الذي أقامه الإنجليز، وما فيه من سكك حديدية ومدارس ومشروعات زراعية وجيش نظامي، وغير ذلك من مطلوبات الدولة إنما تم سداد تكاليفه من الخزينة المصرية، باعتبار أن السودان كان يعد آنذاك إقليماً مصرياً. في حين أن الإدارة الإنجليزية كانت ترمي إلى هدف آخر هو أن يكون السودان للسودانيين، حتى لا يقوم مشروع دولة وادي النيل، التي تمتد من البحر الأبيض المتوسط إلى الأدغال السودانية. الفقرات السابقة مهمة في ذاتها وفي مصدرها. فهي تسلط الضوء على خلفية الحضور المصري في السودان منذ قرنين من الزمان. وتفسر بالتالي لماذا اعتبرت النخبة الحاكمة في مصر طوال العهد الملكي أن السودان جزء من مصر، وأن وحدة وادي النيل هي الأصل، وهي المطلب الذي تمسكت به جنباً إلى جنب مع مطلبها جلاء الإنجليز عن البلاد. أما مصدر هذه الشهادة فهو واحد من أبرز المثقفين السودانيين. هو الدكتور حسن مكي مدير جامعة إفريقيا العالمية (نشرت بجريدة الأهرام في 2 /12 /2008). هذه الصفحة طويت بعد قيام ثورة يوليو / تموز ،1952 التي اعترفت بحق السودان في تقرير مصيره. مما ترتب عليه انحياز ممثليه إلى الاستقلال، الذي أعلن رسمياً في أول شهر يناير / كانون الثاني عام ،1956 وهذا الاستقلال نقل علاقات الطرفين إلى طور آخر. فقد شغلت مصر في المرحلة الناصرية بمعاركها المشهودة. في الوقت الذي احتفظت فيه بعلاقة ود طيبة مع السودان المستقل، وقد تطور الأمر على نحو أكثر إيجابية في عهد الرئيس السادات الذي توصل إلى اتفاق مع الرئيس جعفر نميري "1978 1985" حول صيغة "التكامل" التي أقامت مؤسسات عدة للتعاون بين البلدين. ولكن حكومة الصادق المهدي التي جاءت بعد ذلك ألغت التكامل وتبنت ما سمي في حينه ب"ميثاق الإخاء"، الذي كان بمثابة نكوص أدى إلى تراجع العلاقات خطوات إلى الوراء. وفي عهد حكومة الإنقاذ التي تولى السلطة فيها الرئيس عمر البشير "عام 1989" حدثت محاولة اغتيال الرئيس مبارك "عام 1995"، التي شاركت فيها بعض أطراف الحكم في الخرطوم، ما ضاعف من تراجع علاقات البلدين وأدى إلى تدهورها.هذا التاريخ، القديم منه والحديث، ظل حاكماً لمسار العلاقات طول الوقت. فقد تعددت قراءة الماضي البعيد على نحو أقام حاجزاً في الإدراك السوداني أمام التفاعل المنشود. أما الماضي القريب فقد أضاف حاجزاً في الإدراك السياسي المصري زاد الأمور تعقيداً. وما كان لهذا وذاك أن يحدث إلا في غياب رؤية استراتيجية مشتركة تحدد الأهداف العليا، وتفرق بين ما هو مصيري وعارض أو بين التناقص الرئيسي والتناقصات الثانوية. وهذا منطوق يحتاج إلى بعض التفصيل. فقد أشاعت الخلفيات التاريخية حساسية مفرطة لدى شريحة واسعة من المثقفين السودانيين إزاء التعامل مع مصر. فمنهم من اعتبر الوجود المصري منذ أيام محمد علي باشا "احتلالا"، الأمر الذي أثار جدلاً طويلاً لم يتوقف بين المثقفين السودانيين والمصريين (الأخيرون اعتبروه فتحا). ومنهم من اعتبر أن مصر ظلت عازفة عن الاعتراف باستقلال السودان والتعامل معه باعتباره شقيقاً وندّاً، وتصرفت في مواقف عدة كما لو أن السودان لا يزال تابعا لها. ومنهم من ذهب إلى أن النخبة المصرية تستعلي على السودانيين وتنظر إليهم نظرة دونية (أحدهم قال لي لماذا يظهر السوداني "بوابا" في الأفلام السينمائية المصرية، في حين أن المصريين أصبحوا يؤدون هذه الوظيفة في أغلب دول الخليج؟)، إلى غير ذلك من الدعاوى والانطباعات التي سجلها كتاب "النداء في دفع الافتراء" (1952) للمؤلف السوداني محمد عبدالرحيم. صحيح أن ثمة أجيالاً من المثقفين السودانيين تجاوزت تلك الحساسيات (أغلبهم ممن درسوا في مصر وخالطوا أهلها). لكن هذه الأجيال بسبيلها إلى الانقراض، فضلاً عن أنه في غياب الحضور المصري في السودان فإن الأجيال الجديدة باتت تستشعر غربة إزاء مصر، حتى أصبحت غير محصنة ضد فيروس الحساسيات باختلاف مصادره. وضاعف من سلبية الموقف أن مصر السياسية لم تبذل جهداً ملموساً لتصحيح تلك الانطباعات خلال العقود الثلاثة الأخيرة بوجه أخص، التي بدا فيها السودان مهمشاً في الاستراتيجية المصرية. حتى سمعت من أحد كبار السياسيين السودانيين أنهم في الخرطوم شعروا بعد محاولة اغتيال الرئيس مبارك أن السودان سقط من منظومة الأمن القومي المصري. في هذا الصدد لا يستطيع المرء أن يكتم شعوره بالدهشة حين يجد أن بلداً كبيراً ومهماً للغاية بالنسبة لمصر يهمش هكذا أو يغيب في رؤيتها السياسية. إذ هو بالنسبة لنا ليس جاراً وشقيقاً فحسب، ولكن أيضاً سودان نهر النيل، وما أدراك ما نهر النيل. وسودان العمق الاستراتيجي، وسودان الموارد البشرية والاقتصادية الكبيرة. هذا إذا تجاهلنا دوره كباب للعرب والمسلمين إلى إفريقيا. يطل على ثماني دول منها (غير مصر). هو باختصار والمعيار النفعي البحت إحدى ضرورات الدفاع عن الأمن القومي المصري والعربي.هذه الدهشة تتضاعف إذا علمنا أن "إسرائيل" أدركت منذ وقت مبكر أهمية السودان بالنسبة لمصر والعرب. وهو ما أشرت إليه في كتابات سابقة، عرضت فيها خلاصة لبحث عميد الموساد المتقاعد موشي فرجي حول علاقة "إسرائيل" بحركة تحرير جنوب السودان، الذي قدمه في عام 2003 إلى مركز ديان لأبحاث الشرق الأوسط وإفريقيا التابع لجامعة تل أبيب، وإلى محاضرة آفي ديختر وزير الأمن الداخلي "الإسرائيلي" السابق، حول الرؤية الاستراتيجية لدول المنطقة، التي ألقاها في معهد الأمن القومي بتل أبيب (عام 2008). وفي الوثيقتين كلام صريح عن سعي "إسرائيل" إلى إضعاف السودان وإنهاكه لكي لا يصبح قوة مضافة إلى العالم العربي، ولكي يتحول إلى عنصر ضغط على مصر. ولا يخفي البحث الأول أن ذلك المخطط "الإسرائيلي" دخل إلى حيز التنفيذ منذ أواخر الخمسينات وأوائل الستينات من القرن الماضي. حيث ظل تفتيت السودان وإثارة الاضطرابات فيه هدفاً استراتيجياً "إسرائيلياً"، ترجم على الأرض من خلال الدعم الكبير الذي قدم إلى حركة الانفصال في الجنوب، وهو الذي انتقل بعد ذلك إلى دارفور على النحو الذي ستفصل فيه لاحقاً. بوسعنا أن نقول إن السودان أخطأ عدة مرات في حق مصر. فقد استبد الغضب بالبعض حين استقر بالقاهرة الرئيس السابق جعفر نميري بعد إسقاط نظامه في منتصف الثمانينات، وذهبوا في المطالبة به إلى حد حرق العلم المصري. وحين ألغى التكامل بين البلدين، وتم إغلاق فرع جامعة القاهرة في الخرطوم، كما تم الاستيلاء على استراحات الري التي أقامتها مصر على النيل. وتواصلت تلك الأخطاء حين تبين ضلوع بعض عناصر الحكم في محاولة الاغتيال الآثمة. بالمقابل ينبغي أن نعترف بأن مصر الراهنة لم تتعامل مع السودان بما يستحقه من مودة. ولم تتصرف معه بمنطق الدولة الحريصة على تأمين حدودها الجنوبية. في الستينات وبداية السبعينات، أقيم حفل أضواء المدينة في الخرطوم، وقدمت الحفل الذي غنى فيه عبدالحليم حافظ الفنانتان سعاد حسني ونادية لطفي. كما زارت العاصمة السودانية فرقة رضا للفنون الشعبية وعرضت هناك مسرحية "مدرسة المشاغبين" التي كان عادل إمام وسهير البابلي أهم أبطالها. ولم تنس حتى الآن زيارة أم كلثوم في عام 56 التي نشرت جريدة "الصحافة" ترحيباً حميمياً بوصولها تحت عنوان: "أهلا سحابة المطر الواعد". هذه الصورة اختلفت خلال العقود الثلاثة الأخيرة. فهم يقولون مثلا إن وزير الثقافة المصري لم يزر السودان منذ تولى منصبه قبل أكثر من عشرين عاماً، وإن وزير الزراعة حين زارها مؤخراً فإن نظيره السوداني قال له وهو يرحب به في المطار: "أهلا بأول وزير زراعة مصري نراه في الخرطوم منذ 22 عاماً" ويعتبرون أن وزير الإعلام في حالة مقاطعة للسودان. يقول أيضاً إن مصر توقفت عن استكمال مشروع قناة جونجلي التي تم إنجاز ثلثيها، رغم أن الظرف أصبح مواتياً لإكمال الثلث الأخيرة. التي إذا استكملت ستضيف الكثير إلى السودان، من ذلك أنها ستختصر الطريق من بورسودان إلى ملكال من أسبوعين إلى يومين أو ثلاثة. يقولون كذلك إن حالة النقل البحري بين البلدين تعبر بقوة عن بؤس الجسور الممتدة بينهما. فقد غرقت 4 مراكب بركابها خلال السنوات الأربع الأخيرة، علما بأن أحدث مركب عامل على الخط بني في عام 72 "عمره 37 عاما" وهناك مركب آخر يعمل منذ عام 59(!).يضيفون أن الدولة خصصت لشركة التكامل الزراعي السوداني المصري 170 ألف فدان قبل أكثر من عشرين عاماً، ولكن مصر تقاعست عن استثمارها بحيث لم تزرع منها طوال تلك الفترة غير 5 آلاف فدان فقط. لست في مقام تبرئة أو إدانة أي طرف. ولكن أهم ما يستخلصه المرء من هذه الشواهد والانطباعات أن البلدين رغم حاجة كل منهما للآخر فشلا في صياغة علاقة إيجابية تنبني على رؤية استراتيجية تستعلي فوق العوارض والصغائر، وتحقق مصالحهما العليا المشتركة. أردت أيضا أن أنبه إلى أن الذاكرة المسكونة بالرواسب والحساسيات ظلت عبئاً أثقل وتيرة التقدم إلى الأمام، وأن مصر إذا ما ظلت تعتبر نفسها في مقام الشقيق الأكبر فإن مسؤوليتها عن ذلك الفشل تغدو بدورها أكبر. الخليج الإماراتية