علي ويوسف قريبان وابنا حارة صغيرة كانا يلهوان في ساحاتها في قرية بلد الشيخ، قضاء حيفا، قبل نكبة فلسطين عام 1948. ولطالما حمل علي صديقه يوسف الذي يكبره بسنوات على ظهر «الطنبر» (عربة يجرها حصان) متنقلاً بين مدينة حيفا وبلدته ليوصل الخضار ومحصول الزرع إليها ويعود بالحبوب وحاجات الأهالي من المدينة. كانت الحياة في فلسطين آنذاك مفعمة بالحيوية والنشاط. لم يسمع أهلها عبارات العنصرية وأصوات الرصاص أو إهانات تكدر صفو معيشتهم، إلى أن غافلتهم ضربات اليهود المحتلين لأرضهم، فأيقظتهم من غطتهم وانشغالهم في نعيم الأرض وبساتينها الخضر المثمرة، فكان الفراق... والابتعاد. أخرجتهم من أرضهم وأنظارهم تتبع صورة البلد حتى اختفت آخر طية من طيات أشجارها. غادروا هائمين على وجهوههم لا يعرفون أين يذهبون. خرج علي مع عائلته باتجاه سورية، أما يوسف فكانت وجهته لبنان. أعيتهما مشقة اللجوء والبحث عن المسكن اللائق ولقمة العيش، فشابوا وشاب الحب معهما، حب فلسطين وأهل البلد. كانا يسألان أحدهما عن الآخر كل زائر يلتقونه آتياً من لبنان أو سورية. فعليّ يعلم أن ليوسف إخوة أكبر منه سناً، لكنه لم يعرف الطريق إليهم. مرت سنوات تخللتها أحداث وكوارث متتالية في المنطقة، كان آخرها النزاع الدموي القائم حالياً في سورية، ما أدى إلى تشريد مئات الآلاف من العائلات السورية خارج البلد، ومن بينها عائلات فلسطينية كانت تعيش في مخيمات داخل المدن السورية. فارتحل علي وعائلته إلى لبنان، مناجياً ربه أن تكون العودة بعدها إلى فلسطين وليس إلى سورية. حاول علي أن يستثمر وجوده في لبنان، فلم يفوّت مناسبة اجتماعية دعي إليها إلا وسأل عن أقربائه في لبنان، مستذكراً بعض الأسماء وصوراً عن الحياة في فلسطين. وكان وجوده في أحد متنزهات نهر الأولي، شمالي مدينة صيدا، لحضور حفلة زفاف، سبباً للتعرف إلى مزيد من الأقرباء والأنسباء. فأصرّ على السؤال عن صديقه يوسف. وعند مرور إحداهن، سألها: هل تعرفين يوسف السهلي؟ فقالت له: من يوسف بالتحديد؟ هناك كثر ممن يحملون هذا الاسم. فذكر لها اسمه الكامل، مع بعض أسماء إخوته وأخواته. فأجابته بسرعة: «نعم أعرفه. هذا يكون خالي... وأنا ابنة أخته». فاستحلفها بالله أن توصله إليه، شارحاً لها وضعه وقِدم معرفته بيوسف. فأطرقت رأسها، وقالت: «بكل تأكيد يا عم». لم تمض برهة من الزمن حتى اتصلت المرأة بخالها وعائلته، قائلة لهم ان الحاج علي الآتي من سورية يريد أن يقابل يوسف في أقرب وقت ممكن. فهو يقول إنه يعرفه من أيام فلسطين. وفعلاً جرى ترتيب الموعد، وكان اللقاء الذي طار فيه قلبهما فرحاً، فحلّقا فوق فلسطين وبلد الشيخ. أبو عبدالله (ابن شقيق يوسف)، وأحد المشاركين في «الحملة الدولية للحفاظ على الهوية» (انتماء)، ساهم في ترتيب اللقاء بين عليّ ويوسف وكان حينها يحمل خريطة فلسطين ومنشورات الحملة. فطغى الحديث عن فلسطين وبلد الشيخ على أي حديث آخر. فاستعادوا ذكريات البلاد كأنها أمامهم ويعيشون لحظاتها، فال 65 عاماً لم تكن كافية لتغير وجدانهما وتعلق أرواحهما بحبات ترابها. يقول عليّ إن كبار العائلة الذين عايشهم، وتُوفوا خارج فلسطين كانوا يتمنون أن يصلوا ولو للحظة واحدة إلى ديارهم، ليروها بأعينهم ويموتوا على أعتاب بيوتهم. أما يوسف فقد سبق أن رفض زيارة أرضه في شكل موقت، بعدما سنحت له الفرصة مرات عدة، إذ كان يعلم أن مجرد ساعات لا تكفي... لأنها ستزيد من حرقته ولن يسعفه قوامه على الانتظار مجدداً لدى مغادرتها. يأمل علي ويوسف أن يعودا معاً... مبديين استعدادهما للعودة بأي لحظة... وترك كل ما يملكان وراءهما.