استمر تقبل التعازي بغياب رجل الأعمال وأحد أهم رموز النضال السياسي الوطني الفلسطيني أمس، سعيد الخوري. وأمَّ منزله المزيد من رجال السياسة أبرزهم رئيس كتلة «المستقبل» رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة والوزير السابق جان عبيد وسفراء عرب وقادة فلسطينيون قدم معظمهم من الخارج. وغادر رئيس الحكومة الفلسطينية رامي الحمدالله بيروت بعدما شارك على رأس وفد حكومي موسع مثل الرئيس محمود عباس في تشييع الفقيد. وكان مستشار عباس وصديق الفقيد، عضو المجلس الوطني الفلسطيني باسل عقل ألقى كلمة في تشييعه قال فيها: «بالأمس القريب ترجل فارس فذ واليوم يترجل فارس استثنائي. والفارسان توأمان صنوان لم ينفصلا أبداً أولهما حسيب صباغ وثانيهما سعيد الخوري. غادرنا حسيب وقد ملأ الدنيا نشاطاً وإنجازات ووطنية. ويغادرنا اليوم سعيد بعد أن أكمل المشوار مع صنوه حسيب. أكمله متفوقاً على نفسه إنجازاً ووطنية وحكمة وعطاء وشموخاً. البيئة الحاضنة للتوأمين كانت وظلت فلسطين. ولدا فيها وعاشا فيها وعملا فيها ولها قبل سقوطها وبعد سقوطها في أيدي الأعادي. بقيت فلسطين ديدنهما ولبنان ملاذهما وحبهما، فاستقرا فيه حيث عشقا حسن الضيافة وطيب المعشر والمأكل وجمال الطبيعة وحرية الرأي والعمل وسهولة التنقل والسفر والمواطنة. أبا توفيق، أنا في هذا المقام لا أرثيك ولكنني أناجي فيك طباعك، خصائصك، سجاياك، وطنيتك، فلسطينيتك، لبنانيتك، ظرفك، لطفك، مرحك، تواضعك، أدبك، عطاؤك، عنادك على الحق، انتصارك للمظلوم واندفاعك نحو كل ما يفيد الشأن العام. سعيد الخوري إنسان رقيق المعشر، خفيض الصوت لا يعرف التشنج أو العصبية وهو يميل كثيراً إلى الظرف والمرح، ومن صفاته المميزة أنه عاشق للطرب والموسيقى، ويقرض الشعر ويحفظ منه الكثير. وسعيد محب للسفر ورفيق سفر ممتع. وعن السفر كم كان يحلو له أن يردد القول التالي للإمام علي بن أبي طالب: تغرب عن الأوطان في طلب العلا وسافر ففي الأسفار خمس فوائد تفرج هم واكتساب معيشة وعلم وآداب وصحبة ماجد كان من المعجبين جداً بالشاعر أحمد شوقي وبأبيات شعر لشوقي كانت محببة له يترنم بها دوماً. منها ما قاله شوقي يوم دخل الجنرال اللنبي القدس: يا فاتح القدس خلي السيف ناحية ليس الصليب حديداً كان بل خشبا إذا نظرت إلى أين انتهت يده وكيف جاوز في سلطانه القطب علمت أن وراء الضعف مقدرة وأن للحق لا للقوة الغلبة وأبيات أخرى خالدة لشوقي كان أبو توفيق يرددها منها: وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا وما استعصى على قوم مثال إذا الإقدام كان لهم ركابا هذان البيتان يعبران عن قناعات أبي توفيق بأن الحقوق الفلسطينية لن تعود إلا إذا تولى الشعب الفلسطيني المبادرة وأخذ الأمور بيديه. ظلت فلسطين شغله الشاغل طيلة حياته يفرح من أجلها ويحزن ويسعى ويوظف ويعطي من أجلها، بل ويعيش من أجلها. من مآثره الأخيرة مشروع تطوير بيت لحم مهد المسيح عليه السلام. كنا سوية في زيارة للمدينة حين لاحظنا أنها مهملة كأنها ما زالت كما هي من عهد الانتداب البريطاني. واتفقنا على إنشاء مؤسسة يتولى هو رئاستها تضم في مجلسها شريحة من كبار الشخصيات العالمية حتى تشرف على تطوير جميع جوانب الحياة فيها. وشمل التطوير ترميم كنيسة المهد ذاتها. والترميم جار الآن على قدم وساق. وبعقلية المهندس وبراعة الجراح أنشأ سعيد الخوري مؤسسة تطوير بيت لحم وجعلها ابنته المدللة ورصد لها أموالاً طائلة لتمويل وتنفيذ مخططات التطوير. وأصبح مشروع بيت لحم هاجساً لديه واعتبره من أعظم إنجازات حياته. وبما أن من خلّف ما مات فإن الأمل والثقة كبيران بأن يكمل توفيق وسامر ووائل وسلوى وتيماء مشروع بيت لحم الإيماني الحضاري العظيم تحقيقاً لرغبة والدهم الراحل الكبير. ومشروع بيت لحم ليس الأول أو الأخير، فكل ما يتعلق بفلسطين يدخل في صميم اهتماماته وأولوياته. وقبل فترة قصيرة دخلت عليه يوماً في مكتبه في بيروت وقلت له: أبا توفيق الرجال مواقف وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر. فقال ماذا لديك؟ قلت: ليس هناك مال لدى السلطة الفلسطينية لدفع رواتب ما يربو على مئة وسبعين ألف موظف في الأراضي المحتلة. وإذا كان كل موظف يعيل ما معدله خمسة أو ستة أفراد، فمعنى ذلك أن حوالى مليون إنسان فلسطيني بحاجة إلى من يؤمن قوت يومهم. فسألني ما المطلوب في رأيك؟ فقلت مليونا دولار. فأجاب: سأدفع خمسة ملايين. فقفزت من مقعدي والدموع تداعب عيني وقبلته من جبينه. واتصلنا بالرئيس أبو مازن وأبلغناه عن مكرمة أبي توفيق. وتم تحويل المبلغ خلال ساعات. وهكذا دواليك. سعيد الخوري ينام على ذكر فلسطين ويستيقظ على هاجس فلسطين. لست أبالغ إذا قلت إنه كلما هاتفني أبو توفيق من أثينا إلى بيروت، كان السؤال الملح الذي يطرحه عليّ كل مرة: ما أخبار فلسطين؟ ما أخبار لبنان؟ كان مسكوناً بفلسطينولبنان استقراراً وأمناً ومصيراً. إذا شئنا أن نلخص سيرة سعيد الخوري، فالجواب هو: سعيد توفيق الخوري نبتة نمت في فلسطين وترعرعت في لبنان وكبرت في الخليج وعم إنجازها العالم أجمع بنياناً وبنى تحتية ومطارات وجسوراً وطرقات ومجمعات وملاعب، في ظل CCC، ذلك الصرح الشامخ والمظلة الشاملة والعنوان العالمي. سعيد توفيق الخوري قدوة لكل من أراد أن يتفانى في خدمة وطنه ويكرس حياته في سبيل شعبه، رمز للعطاء والنزاهة التي لم تخدش يوماً وإنكار الذات لمصلحة المجموع. سعيد توفيق الخوري سنديانة عتيقة ماتت واقفة فلم تمت لأن جذورها العميقة ضاربة في الأرض وفروعها العالية تحاكي السماء. كم أغضبه أناس كثيرون ولكنه لم يغضب يوماً أحداً. سعيد توفيق الخوري قيثارة كل عصامي أنجز من لا شيء شيئاً كبيراً فبنى وعمّر وتفوق وأبدع. يغادرنا جسداً ولكن روحه ستظل بيننا وحولنا وفي ضلوعنا ذكرى غالية. لم يمت فهو مثل طائر الفينيق يخرج اليوم من الرماد لينثر سيرته ويجددها عطراً طيباً عبقاً. سعيد توفيق الخوري هو آخر عمالقة هذا الجيل من الرجال. أبا توفيق الحبيب، عشت حياتك حكيماً ذا رؤية صائبة، وكانت قراراتك دوماً سديدة ويبدو أن رحيلك في هذا الظرف بالذات له علاقة وثيقة بحكمتك التي عودتنا عليها. إن قلبك الكبير ووجدانك المرهف ووطنيتك المتأصلة أبت أن تتقبل مشهد الأمة العربية وهي اليوم تعيش انحطاطاً لم تشهده منذ قرن. فالوطن العربي إلى تمزق. والمذهبية البغيضة تسود والوعي غائب والإرادة مخدرة والرؤية معدومة والتدهور مستمر والاقتتال جار والإسلام يشوّه وإسرائيل تعربد احتلالاً واستيطاناً وهي منتشية. فيا لك من عاقل حكيم. اخترت المغادرة وآثرت الرحيل لأن الواقع العربي كئيب كئيب ومقيت وثقيل على قلبك الكبير. ومع ذلك وعلى رغم الكآبة التي تخيم على الصدور فقد عشتَ دوماً يحدوك الأمل والتفاؤل مسترشداً بقول الشاعر: ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل. فلا بد من انقشاع هذه الغيمة الدخيلة السوداء التي تجمعت فوق عالمنا العربي. فدوام الحال من المحال وكل آت قريب. وحركة التاريخ علمتنا أنها تتأرجح بين نقيضين. وكما قال شاعرك المفضل شوقي: هكذا الدهر حال ثم ضد ما لحال مع الزمان بقاء وكما قال الشاعر البريطاني الفرد تينيسون: كل شتاء صائر إلى ربيع أبت الطبيعة إلا أن تشاركنا الحزن لفراقك وما هذه العواصف التي تهب علينا اليوم إلا تعبيرا عن حزن الطبيعة وغضبها لرحيلك. أبا توفيق، إلى جنان الخلد إن شاء الله».