جرت العادة في مهرجان كان السينمائي، أن يأتي واحد من كبار مبدعي هذا الفن بفيلم صغير حققه على «هامش» مساره المهني، ليعرضه بكل تواضع في تظاهرة ثانوية، راغباً في أن يكون أشبه بوصية له. يحدث هذا كثيراً، لكننا هنا نكتفي بحالتين: يوم عرض فرانسيس فورد كوبولا تحفته الصغيرة «تيترو» قبل أعوام، ثم حين عرض برناردو برتولوتشي «أنا وأنت» في العام الماضي. وفي دورة هذه السنة، كان دور المخرج الإنكليزي ستيفن فريرز الذي لا يقل مكانة عن زميليه الأميركي والإيطالي، ليعرض فيلمه «الصغير» الجديد «أعظم معارك محمد علي»... لكن الفارق يكمن في أن حميمية الفيلمين السابقين تخلي المكان هنا لعمل تاريخي – سياسي. وكان يمكن أن نقول «عملاً رياضياً» أيضاً لولا أن المعركة المقصودة في العنوان هي معركة ملك الملاكمة في القرن العشرين محمد علي (كاسيوس) كلاي ضد إدارة نيكسون التي بذلت كل جهدها بداية سنوات السبعين من القرن الماضي لسجنه وإلغاء ألقاب بطولته العالمية لمجرد أنه رفض أن يحارب في صفوف الجيش الأميركي في فييتنام، مستنداً يومها إلى «أسباب دينية» إثر اعتناقه الإسلام منضماً إلى جماعة «أمة الإسلام» بزعامة أليجا محمد. هذا هو إذاً الإطار التاريخي لتلك المعركة التي حقق عنها فريزر فيلمه الجديد... ومن هنا، حتى إذا كانت هناك في الفيلم مشاهد ملاكمة، فإنما أتت هامشية مأخوذة من الأرشيف، ما يجعل جزءاً أساسياً من الفيلم وثائقياً، فيما الجزء الآخر، والأطول، روائياً. هذا الجزء الروائي مشغول إلى حد ما داخل القاعات المغلقة للمحكمة الدستورية الأميركية العليا التي يتعين عليها بعد الحكم على كلاي بالسجن خمس سنوات وتجريده من اللقب وبغرامة مالية، أن تؤكد الحكم أو تنقضه. ونعرف أن هذه المحكمة الدستورية العليا كانت في ذلك الحين تحت هيمنة قضاة يمينيين جمهوريين، ما سهّل على الرئيس نيكسون أن يتدخل لتأكيد الحكم، من ناحية لمنع حالة كلاي من أن تصبح سابقة قضائية تسهّل تمنع الشباب عن الذهاب إلى الحرب، ومن ناحية أخرى لمعاقبة كلاي نفسه على مواقفه «الاستفزازية العنيفة». غير ان الأمور لم تجر في النهاية كما كان البيت الأبيض يشتهي. لكن ذلك في الحقيقة، وعلى عكس ما يقول عنوان الفيلم، لم يكن بفضل نضال كلاي نفسه، بل إن الملاكم البطل غائب تماماً عن الجزء الوثائقي وعن الصراع «الدرامي» الذي يشغل هذا الجزء! الصراع هنا أميركي- أميركي خالص. بل حتى أبيض- أبيض خالص، بعدما انسحب العضو الأسود الوحيد من هيئة القضاة معلناً أنه أصلاً ضد كلاي! بنى فريرز فيلمه، إذاً، على فكرة السجال القانوني وعلى الوعي الأخلاقي الذي يستيقظ بالتدريج لدى القضاة، إذ يساعد المعترضين على الحكم محامون شبان يكتشف أحدهم سابقة تتعلق باعتبار شهود يهوه ذوي حق في التمنع عن خوض الحرب لأسباب دينية، فتنوجد الذريعة: لماذا لا يعطى هذا الحق أيضاً لجماعة «أمة الإسلام» وتنتصر عدالة البشر على عدالة السلطة ولا يحتاج كلاي إلى خوض الصراع؟ هكذا يأتي هذا الفيلم بعد أكثر من أربعين عاماً ليعيدنا إلى القضية التي كانت تبدو في زمنها شائكة وضخمة، ويحاول أن يجتذب المتفرجين باسم صاحب العلاقة، بطل الملاكمة، ليقدم عملاً آخر من أفلام المحاكم التي لها دائماً جاذبيتها. لكن الفيلم ينبني هنا على ترابط بين العام والخاص لا يبدو مقنعاً، وإن كان الجيد في الأمر أنه يعيد التذكير بدور المحاكم الدستورية العليا في سياسة باتت تحاول القفز على ذلك المستوى القضائي المدهش والمطمئن، حيثما تكون هناك دولة وحكم قانون وسلطة ديموقراطية تعتبر نفسها خاضعة لحكمه... وليس هذا بقليل في أيامنا هذه بالتأكيد.