بدا الرجل كما لو أنه يغط في نوم عميق، وقد تخلى عن أسطورته دفعة واحدة وهو يخضع ل «استجواب» الصحافي الذي التقاه ذات يوم من أيام 1968 على الحلبة التي كان يصارع فيها خصومه، وها هو يلتقيه مجدداً بعد مرور أكثر من أربعة عقود على ذلك اللقاء. ظهر محمد علي كلاي، الملاكم الأميركي الأسطوري، في اللقاء الجديد الذي بثته أخيراً فضائية «دبي ون»، وكأنه يجيء من عالم آخر. كان كلامه ثقيلا وفيه «نحنحة» مرهقة للسمع، وبالكاد يُفهم. حتى أن القائمين على اللقاء وضعوا «تيترات» باللغة ذاتها تشرح ما يقول «من كان يوماً يقفز كالفراشة من حول خصمه ويلسع كالنحلة». وهو نفسه من دوّخ خصومه الكبار من أمثال جو فريزر وجورج فورمان عند حبال الحلبة التي كان يلجأ إليها قبل أن يقرر انهاء الخصم بالضربة القاضية. الآن بعد مرور أربعة عقود على ذلك الزمن العاصف الذي عاش فيه الملاكم الزنجي الذي لا يقهر كاسيوس كلاي، رافضاً اسمه هذا «رمز العبودية»، ومشهراً اسلامه متأثراً ب أليجا محمد مطلع سبعينات القرن العشرين، رافضاً المشاركة في حرب فيتنام بقوله إنه لن يذهب لتحرير أناس آخرين في بلاد ليست له، فيما الزنوج يضربون في ولاية كنتاكي من «الأشرار البيض». كان كلاي بطل العالم في الملاكمة دون منازع. لم يكن يرحم خصومه أبداً. وهو إلى جانب ذلك بدا في ذلك الزمن الذهبي الآفل رجلا فائر الأعصاب ويقظاً مثل حمار وحش في اللقاءات الأرشيفية التي بثت. وكان يسعى بكل ما أوتي من قوة للحفاظ على لقبه الذي وصل إليه بموهبته الفذّة، حتى أنه لم يوفر ملاكماً أو صحافياً من نبرته القاسية المتهكمة والمستفزة إلى أبعد الحدود كما حصل في حديثه مع الصحافي عام 1968 في تعليقه على «صراع في الغابة» الذي جمعه في العاصمة الزئيرية إلى الملاكم جورج فورمان، وقد وصفه بالجبان المخادع مؤكداً أمام الكاميرا في حسبة خيالية وغرور منقطع النظير بأن ملياري شخص سيحضرون هذا اللقاء التاريخي على مدى 170 سنة. كان الملاكم الأسطوري في قمة غضبه حينها فلم يوفر أحداً، وفي فورة نشاطه البركاني لم يسلم الصحافي نفسه من نبرته القاسية الساخرة قبل أن يعود ويستسلم له مجدداً بعد أربعين عاماً، وقد نال منه داء باركنسون وأصبح «ركاما بشرياً» ثقيل اللسان وغريباً مثل طفل هرم. تخلى الملاكم العجوز عن قفزات الفراشة عندما شخر واستسلم للنوم أمام الصحافي الذي تعمّد ابقاء الكاميرا مصوبة نحوه، وكأنه يريد أن ينتقم لنفسه من البطل. تنّبه كلاي إلى شخيره واستيقظ مبتسماً بعد ثوان ليقول له إنه قد خدعه بنومه لأنه يبدو له غبياً. ضحك الصحافي مرة أخرى بعد أربعين عاماً على الإهانة الأولى وتجرعها ثانية، لكنه نال بدوره من الأسطورة بالضربة القاضية عندما أظهره خامداً وثقيلاً وتعوزه القفزة واللسعة، وإن بدا أنه لم يفتقدهما البتة.