وسط الوضع العربي المتفجر والإقليمي العابر بين ثورة وأخرى يصح التساؤل عن حال القضية الفلسطينية. ففي الذكرى 65 للنكبة لا يزال شعار الدولة الفلسطينية في الضفة الغربيةوغزة شعاراً رسمياً للفلسطينيين. لكن الحقائق على الأرض تثير الكثير من الأسئلة حول مدى إمكانية إقامة دولة فلسطينية. إن مناطق الضفة الغربية التي تصل مساحتها على وجه التقريب إلى 6 آلاف كلم مربع، اقتطع 60 في المئة منها للاستيطان الإسرائيلي الذي ارتفعت أعداده لتصل إلى أكثر من 300 ألف مستوطن، بينما تمت عملية عزل القدس وضمها عملياً إلى إسرائيل وتطويقها بأكثر من 350 ألف مستوطن إضافيين. إن الدولة الفلسطينية المرتقبة لا زالت على الورق وذلك لأن السلطة الفلسطينية تسيطر على مساحة صغيرة من المدن المحاصرة والبلدات والقرى المنفصلة عن بعضها بعضاً والمطوقة بجدار إسمنتي بنته إسرائيل لتدعيم سيطرتها واحتلالها وعزل القدس عن محيطها الفلسطيني. إن المنطقة التي تقوم عليها السلطة الفلسطينية والتي لا تتجاوز 10 في المئة من مساحة فلسطين التاريخية، تضم غالبية سكان الضفة الغربية البالغ عددهم مليونين ونصف المليون شخص. وهذا يضع عبئاً كبيراً على السلطة الفلسطينية ويحملها مسؤولية السكان من دون أن تكون قادرة على السيطرة على الأرض والمياه والحقوق والاقتصاد والمعابر. فكما تحاصر غزة من إسرائيل تحاصر الضفة الغربية منها بأسلوب مختلف هو أقرب إلى الاحتلال الممزوج بالفصل العنصري. لكن المعضلة التي تواجهها إسرائيل أن سلطة رام الله لا تستطيع أن تنفصل طويلاً عن سعي سكان الضفة الغربية لفك حصار المدن والقرى ولمواجهة الجدار وحماية الحقوق. فعلى رغم التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل والذي فرضته اتفاقيات أوسلو، إلا أن خنق إسرائيل مدنَ وقرى الضفة الغربية في ظل استمرار الاستيطان المكثف يجعل السلطة في موقف صعب يتطلب منها عملاً سياسياً وكفاحياً يخفف الضائقة عن الناس كما يشجع على مواجهة الاستيطان وسياسات التهجير والمصادرة الإسرائيلية. وللسلطة الفلسطينية أكثر من وجه وذلك بحكم ظروفها تحت الاحتلال، فهي تحوي في صفوفها مناضلين قدماء مجربين يحملون مبادئ عالية كما تحوي في الوقت نفسه من يسعون إلى سلطة وامتيازات ومناصب بينما تنقصهم الكفاءة والمعرفة. السلطة الفلسطينية تعاني من ضعف واضح في قدرتها على المساءلة والمحاسبة الشفافة في ظل غياب فصل السلطات (القضائي والتشريعي والتنفيذي والإعلامي). وهناك تساؤلات بين السكان حول الحقوق والحريات والفساد ما يضعف السلطة الفلسطينية في مواجهة ضغوط الاستيطان والاحتلال. إن معضلة السلطة الأساسية هي: كيف تعيد تشكيل وضعها لتكون حركة تحرر وطني تتبع وسائل جديدة للكفاح وتتصدى للفصل العنصري والاحتلال الإسرائيلي والاستيطان بكفاءة وفعالية؟ وبينما ما زال البعد المسلح قائماً في غزة، إلا أن الثورة المسلحة ليست مطروحة في الضفة الأخرى وذلك بعد الثمن الكبير الذي دفعته الضفة بكاملها نتيجة آخر حرب فلسطينية - إسرائيلية (انتفاضة الأقصى عام 2000 والتي استمرت سنوات عدة). ما لا يعيه العالم العربي أن الثمن الذي دفعه الفلسطينيون نتيجة الانتفاضة الثانية كان كبيراً، فإسرائيل نجحت بتصفية واغتيال معظم الكوادر الذين شاركوا في قيادة العمليات المسلحة. لقد نجا بعض المقاتلين في الجبال من هذا المصير، لكن التصفية كانت شاملة، باستثناء بعض الذين أودعوا السجون بأحكام مؤبدة. وقد جاء جدار الفصل الإسمنتي بعد تلك الثورة ليقطع أوصال الضفة الغربية وليحاصرها اقتصادياً وأمنياً في ظل تكثيف الاستيطان في قلبها. إن تمرد الضفة الغربية (شرق فلسطين) على واقعها ضمن المنظومة الفلسطينية سيعني ممارسة وسائل جديدة للنضال كما حصل مع باب الشمس وباب الكرامة عندما أقامت مجموعات شبابية فلسطينية مبيتها على أرض فلسطينية في القدس. إن باب الشمس وباب الكرامة وحملات مماثلة أخرى حول الخليل لإنشاء قرى سلمية تتمسك بالأرض يعني عملياً قيام شكل جديد للنضال الفلسطيني. هذا الوضع سيبرز عصباً جديداً للحركة الوطنية عموده الفقري حركات الشباب التي تناضل في عشرات المناطق الساخنة. مع الظلم تستمر المقاومة ويستمر منسوب النضال السكاني والشبابي في الارتفاع نحو أفق جديد. إن الضغط على الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية يولد مقاومة دائمة لا نلمسها في وسائل الإعلام، إذ تستمر المواجهات المتقطعة حول الجدار المحيط بمناطق السلطة الفلسطينية. إن السعي الشعبي التراكمي يتحول مع الوقت إلى تعبير مستقل عن السلطة الفلسطينية، لكنه في الوقت نفسه سعي مقاوم لا يتصادم مع السلطة الفلسطينية بحكم أولوية المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي. أما في الجزء الآخر من فلسطين في غزة فلا يزال منطق الكفاح المسلح هو الأقوى حيث تمسك حركة «حماس» بمقاليد السلطة وحيث يعيش مليون ونصف المليون فلسطيني على مساحة صغيرة من الأرض تشكل 1.5 في المئة من فلسطين. فغزة المحررة محاصرة ومحاربة في الوقت نفسه. وفي الذكرى 65 للنكبة أصبح وضع غزة أفضل مما كان عليه في زمن الرئيس حسني مبارك حيث كانت حدودها مغلقة مع مصر، وهذا أعطى غزة مرونة نسبية لم تكن تمتلكها في مواجهة إسرائيل. لقد أدت توازنات الربيع العربي إلى نجاح غزة في مواجهات مع إسرائيل مثل تبادل الأسرى عام 2011 والمواجهة العسكرية أواخر 2012. وتبقى غزة مخزوناً بشرياً قادراً على التحول إلى شيء أكبر منه، فغزة جزء حيوي من توازنات القضية الفلسطينية ولا يمكن إنجاز استراتيجية فلسطينية تحررية بلا إشراكها. لكن التساؤل حول غزة: كيف تتعامل قيادة «حماس» مع التجديد في صفوفها، ومع المختلفين معها سياسياً؟ وكيف تتعامل مع حريات المواطنين ومع الاقتصاد والتخطيط والتعليم والمرأة والتنمية والمساءلة وفصل السلطات؟ ثم كيف تتعامل «حماس» مع بقية فئات الشعب الفلسطيني ومع حركة «فتح» في الضفة الغربية ومناطق أخرى؟ هذه قضايا لا تستطيع حركة تحرر، أكانت «فتح» أم «حماس»، أن تؤجل البت فيها على أرضية حقوقية من دون أن تنتج من ذلك خسائر سياسية تؤثر سلباً في القضية الوطنية التي تحمل همها. ولا يمكن التحدث عن واقع الشعب الفلسطيني من دون الحديث عن فلسطينيي 1948 من حملة الهوية الإسرائيلية. فهذه الأقلية التي بقيت في ما أصبح إسرائيل، تكاثرت لتصل إلى مليون وسبعمئة ألف فلسطيني. هذا الجزء من الفلسطينيين الذين يمثلون 20 في المئة من سكان إسرائيل هو الأكثر معاناة على الصعيد النفسي بين الفلسطينيين بحكم الاضطهاد والاستلاب والتهميش، لكن هذه المجموعة من الفلسطينيين هي الأكثر معرفة بالإسرائيليين شعباً وقومية وسياسة ولغة وثقافة. ولهذه المجموعة مكانة متزايدة في الحركة الوطنية الفلسطينية، فهي تملك مفاتيح رئيسة في تحديد وجهة النضال ومستقبل الحلول. وفي المراحل الأخيرة تزداد مبادرات هذا الجزء من الشعب الفلسطيني لحماية القدس، كما تتعمق مبادرات تقودها مجموعات شبابية لتطبيق حق العودة إلى قرى تم هدمها عام 1948 كما حصل أخيراً عندما قام الشبان بإقامة مبيت في قرية إقرث المسيحية قرب الحدود مع لبنان. وبين فلسطينيي 1948 يستمر الصراع ضد التمييز، ويستمر العمل لتحقيق العودة إلى قرى قديمة (كعين حوض)، والتمسك بحق دفن الموتى في مقابر عربية قديمة تسعى إسرائيل لمسح آثارها، ويستمر السعي للحفاظ على عروبة أجزاء رئيسة من مناطق وقعت تحت سلطة إسرائيل عام 1948 في الجليل الأعلى والمثلث ومدن مثل حيفا وعكا. وبينما تقع على أرض فلسطين تفاعلات شتى يتطور الشتات الفلسطيني الذي تشكل نتيجة عمليات التهجير القسري التي تعرض لها الشعب الفلسطيني منذ عام 1948. فالشتات الذي يتجاوز ستة ملايين فلسطيني يمثل خزان العطاء الذي يمكنه أن يرفد فلسطين التاريخية بعناصر إضافية للصمود والبقاء. ومن جهة أخرى يواجه هذا الشتات حالات عدم استقرار ونكبات كما حصل مع فلسطينيي سورية بعد الثورة، وكما يحصل مع فلسطينيي لبنان والعراق ومع حملة الوثائق الصادرة عن وكالة غوث اللاجئين في كل مكان. فلسطينيو الشتات موجودون في كل أنحاء المعمورة ولديهم آمال بحقوق في الأرض التي سلبت منهم والأماكن التي هجروا منها، فهم نتاج النكبة ومخزون طبيعي للقضية الفلسطينية ولحق العودة. وبحكم التجربة التاريخية والطبيعة الاستيطانية لإسرائيل، تتحكم بالميزان الفلسطيني عوامل كثيرة تجعله جزءاً من التيار العربي العام، لكنه يمتلك كذلك خصوصية كبيرة بحكم أن معركته ليست لتغيير نظام سياسي، بل هي مواجهة طويلة الأمد مع الحركة الصهيونية بصفتها حركة عنصرية تسعى للتهويد واقتطاع الأرض وطرد السكان. والعلاقة بين القضايا العربية والفلسطينية قائمة بجدلية متدفقة، فهناك جيل شبابي فلسطيني يتأثر بالتغيرات العربية الثورية، وهناك وسائل نضال تتنامى بين الجيل الجديد من الفلسطينيين لمسنا بعضها في العام الأخير. لكن، يجب أن نعي أن عشرات السنين مضت على النضال الفلسطيني وذلك منذ أن تفجرت الثورة الفلسطينية عام 1965. إن السنوات المقبلة ستشهد ارتفاعاً في منسوب العنصرية والفصل والتعدي التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي بهدف حماية الاستيطان وتطوير تمدده. لكنها ستشهد في الوقت نفسه تكثيفاً للنضال الفلسطيني ضد العزل ومصادرة الأراضي والسيطرة على المقدسات والاستيطان. سيبقى النضال مشتعلاً وعلى الأخص بوجهه المبتكر والسلمي. فالظلم يخلق المقاومة ويعمقها ويطورها، لكن طول مدة الظلم (عشرات السنين وكثرة الحروب والثورات) يؤدي إلى تنوع وسائل المواجهة وفترات من إعادة ترتيب الصفوف. في الذكرى 65 للنكبة يسير الشعب الفلسطيني في طريقه لإعادة اكتشاف قدراته وصوغ حركته التحررية. * أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت shafeeqghabra@ تويتر