لا يمكن ألاّ تلمس الحنوّ في انهماك النحات العراقي أحمد البحراني، على «بورتريه» الرسام والغرافيكي الراحل رافع الناصري، في لمسة وفاء ستكون حاضرة في متحف خاص بأعمال صاحب «تحية إلى المتنبي»، يُفتتح في العاصمة الأردنية التي عاش فيها نحو عقدين قبل وفاته فيها بعد صراع مع السرطان، ومن ثمّ دُفن فيها في الأول من كانون الأول (ديسمبر) الماضي. وليس غريباً أن يُظهر البحراني، صاحب المشروعات النحتية المثيرة للفرجة والدهشة، لجهة انفتاحها على الحياة المعاصر، وكسرها جدران «النخب» الثقافية، كلّ هذا الحنو على الراحل الناصري، الذي ترك اثره العميق في اكثر من فضاء تشكيلي عربي ودولي. فهو لم يتوقف عند هذا «الإحساس الطبيعي»، بل تجاوزه الى لحظة الإمساك بما يدل فعلياً على حضور الناصري الإنساني: ابتسامة غامرة تتقاطع ونظرة عميقة متسائلة. إن من يتطلع الى تمثال الناصري، لا بدّ من أن يشعر بأنّ الفنان ذكي لمّاح، أنيس في حضوره، ومُدهش في عمله التشكيلي. انه المحدق عميقاً في زمنه والمستعدّ برضا وثقة لمواجهة عادياته. وقد يتضح من العمل النحتي، حتى بملامحه الأولية، إحاطة بجو الخسران الذي يعنيه هذا الرحيل المتصل لمبدعي العراق في بلاد الله الواسعة، بعيداً من وطنهم الذي شهقوا من اجله كثيراً، وسعوا الى ان يكونوا في جوهر فكرته المولدة لمعارف وثقافات وجماليات. وفي ما اذا كان عمله النحتي جاء مثار ألم سببه هذا الفقدان المتواصل، يقول البحراني، المقيم في قطر، ل «الحياة»: «ما يجعل الناصري قريباً من ضميرنا وعقولنا هو قلبه وروحه وأنسانيته، أضف إليها فنّه الأصيل الذي تعلمنا منه كثيراً». ويُكمل مضيفاً: «لقد شكّل الناصري في حياتي قيمة خاص جداً. ربطتني به علاقه أنسانية وفنية منذ دخولي معهد الفنون الجميله بداية ثمانينات القرن الماضي، وصولاً إلى ما بعد أحترافي الفن. هكذا تحولت علاقة الطالب والأستاذ إلى علاقة فنّ ومحبة، رغم أنني بقيت أنظر إليه كمعلم وأستاذ وفنان رائد لا أكفّ عن نهل المعرفة منه حتى بعد غيابه». وحول الشكل النهائي للتمثال وما اذا كان سيستخدم له النحاس، أكد البحراني أنّ هذا العمل هو مبادرة شخصية منه، ومن دون توصية أو دعم من أيّ جهة فنية أو رسمية. وأضاف قائلاً: «العمل سيكون بالبرونز وبتقنيات عالية يستحقها هذا الأسم الكبير. ومنذ أن سمعت أن ثمة مشروعاً لإقامة متحف يجمع أعمال الراحل ومقتنياته، قررت أن أقوم بهذا «البورتريه» ليكون بمثابة هديّة أقدّمها مني، وباسم كل طلاب الراحل وأصدقائه، إلى هذا المتحف». ويرى البحراني أنّ الرحيل المتواصل لمبدعي العراق يبدو دافعاً إلى عمل شيء ما، كمحاولة تخليدهم بعمل نحتي مثلما حصل في رحيل الناصري. وهو يضيف في هذا المعنى: «أنا مؤمن أن لكل بداية نهاية. والموت شيء حتمي مكتوب علينا كما هي الحياة. ولكن أن يرحل مبدعونا عن الحياة في المنافي، ولا سيما من كان همّهم الأساسي هو الوطن وقضاياه، فإنّ رحيلهم يغدو مرادفاً لأثر موجع ومؤلم. وهذا ما دفعني إلى القيام بهذا العمل كمحاولة بسيطة مني لمشاركة محبي الناصري ومريديه، حجم ألمهم وحزنهم على رحيله». وإذ يبدو العراق اليوم وقد صار رديفاً للخسارة والغياب القسري والعناء، فإن النحات البحراني ينشغل بمشروعات عدة تنظر بتمعن إلى زوايا اللحظة العراقية ومشهدها المتأرجح والقلِق. فهو يرى أن «المشروع الحقيقي الذي يستحقه العراق اليوم هو الأنسان، أي بناء الإنسان من جديد وتوفير كل سُبل ذلك البناء الأنساني والمادي والمعنوي. لأنّ لا مشروع فنياً حقيقياً يُمكن تحقيقه من دون أستقرار الإنسان وتوفير سُبل راحته ورفاهيته». لكنه في المقابل يُعلن أنّه جاهز دوماً للمساهمة في أيّ دور يُسند إليه بغية أن يُقدّم شيئاً ما للوطن الذي أعطاه الكثير. وعن النحت بوصفه عملاً متصلاً بالصبر والأناة والتمهل، وكيف يمكن له من خلال ذلك الإيقاع المتمهّل أن يحيط باللحظة التراجيدية العراقية، يجيب صاحب المشروع النحتي «ضد الحرب» والذي حقق حضوراً لافتاً أينما عُرض في الغرب: «الفنان الحقيقي هو مرآة ما يدور حوله، وهو انعكاس للواقع، وبخاصه حين يكون الفنان صادقاً وحقيقياً ويشعر بما يمرّ به وطنه وأهله، ولو من بعد. وما يعيشه العراق اليوم مآساة حقيقية وكبيرة، عملتُ على ترجمتها عبر العديد من أعمالي وتجاربي وخصوصاً في السنوات الأخيرة الماضية».