تقع قرية بطرّام إلى الشمال من أميون عاصمة منطقة الكورة اللبنانية الشهيرة ببساتين الزيتون الشاسعة التي تبدو أقرب إلى فردوس مخمليّ تطوقه الجبال من كل الجهات إلا من الغرب، حيث يتشرّع الأفق فسيحاً على البحر كنافذة بلا نهاية. في تلك السهوب الخصبة ترعرع فيليب سالم وإخوته ونشأوا على مبدأين راسخين: رضا الله من رضا الوالدين، ولا سبيل لكم إلا بالعلم نوراً للحياة الدنيا. والواقع أن القرويين اللبنانيين عموماً ثابتون حتى اليوم في اقتناعهم بأن العلم والمعرفة أساس الانتصار على شظف العيش، والوسيلة الوحيدة لردم هوة الخوف من المستقبل. وفي مذكرات شقيقه إلياس، التي صدرت بالإنكليزية في لندن منذ سنوات قليلة، قرأنا وقرأ فيليب سيرة الكفاح اليومي الذي عاشته عائلته كي تتمكن من التوفيق بين شغل الأرض ومتطلبات العلم، وهو لا يتذكر تلك الأيام بحلوها ومرّها، لأنه لم ينسَ يوماً من أيامها، حيث تنجب الآلام سعادات تمد بساطها المتين على سنوات العمر برمتها. نسوق هذه الحقيقة لعلنا نشي بشيء عن منبع العريكة الصلبة لدى أبناء وبنات الكورة، خصوصاً ممن ولدوا في قراها وبلداتها ومنها انطلقوا طلباً للعلم والفلاح. في يفاعهم كان أهلهم يكرزون عليهم بلا ملل أبجدية المحبة والعون والسماح، بقدر ما كانوا يغمدون في ألبابهم طموح التقدم بأشرعة المعرفة نحو الفوز بغدٍ أفضل. تلك هي الخلفية التي جعلت فيليب سالم يهتف فرحاً يوم التقى بطرس عنداري في المهجر وعرفه من أبناء الكورة. ونشأت بين النطاسي البارع والصحافي المغترب صداقة دامت نصف قرن، وكانت بطبيعة الحال مكّوكية شملت المهجرين الأميركي والأسترالي ولبنان وبلداناً أخرى، وأنتجت تعاوناً مثمراً في مجالات الطب والإعلام والثقافة وخدمة الجالية العربية حيثما اغتربت... إلى أن وافت المنية فجأة عميد أهل القلم في أستراليا منذ قرابة السنة... لكن بطرس عنداري لم يغادر هذه الفانية إلا وفي حصاده الإبداعي سيرة الصبي الكوراني الذي شق طريقه بكده وجده إلى قمم العلم وبات واحداً من أشهر معالجي السرطان في الولاياتالمتحدة والعالم. نشرت «دار النضال» السيرة العندارية عن حياة وأعمال فيليب سالم سنة 2004، وكان بديهياً أن تقبل الجاليات العربية على الكتاب في حفلات توقيعه تحت مظلة عالية من فصاحة الخطباء والشعراء، ولا يسعني هنا، ولو بين مزدوجين، إلاّ أن أتذكر قصيدة الشاعر المهجري الراحل نعيم خوري، الذي كان أستاذ فيليب في ابتدائية بطرّام، ومنها هذه الأبيات: «إني لأنبش أيامي وأحفرها / في موج عينيك، أنت البحرُ والجزرُ/ أمشّط الغيم عن وجهي، وعن كتفي/ وعن شفاه الصدى، والجمر ينهمرُ ...». وكان نعيم خوري الذي توفي في مثل هذا الشهر (كصاحبه بطرس)، أحد أبرز شعراء المهجر الأسترالي. العودة الى الجذور يعود فيليب سالم إلى لبنان مرّة كل سنة في مطلع الصيف، ويقيم في بطرّام حفلاً يشمل أصحابه وأبناء ضيعته بعد أن يكون استقبل أعداداً من المرضى والمطمئنين على صحة ذويهم. وعن مثل تلك العودات إلى الجذور قال منصور الرحباني سنة 2002 في قصر اليونسكو:» كطائر ألحّ عليه الحنين عاد يمرّغ جناحيه على سطوح ضيعته، هكذا عاد... يحمل على كتفيه وجع الكثيرين، يحمل وجوهاً موغلة في اليأس والرجاء، عيونها على قسماته، فإن عبس انهارت، وإن تبسم سكنها الأمل (...) قل لهم يا فيليب : نريد وطناً كبيراً، وطناً يؤمّن للباحث تجاربه فلا يغترب من أجل أن يحقق خيراً للآخرين. قل لهم: نريد وطناً للإبداع، ولا إبداع خارج العدالة ولا عدالة خارج الحرية». ولعلّ عودات فيليب سالم إلى مسقط رأسه تعيدنا، إذ نمرّ في بشمزّين حيث تابع دراسته بعد مدرسة الضيعة، إلى ملحمة صعوده أدراج المعارف، فمن الكورة ومدارسها الريفية إلى طرابلس، ثم بيروت، حيث تخرج من الإنترناشونال كولدج حاملاً بكالوريوس علوم، أولى شهاداته العالية سنة 1961. من هناك إلى جامعة بيروت الأميركية حيث درس الطب والفلسفة على قدم وساق، وفي الوقت نفسه تابع التخصص في علوم الحياة في الجامعة اللبنانية! مع ذلك، وعلى رغم كثافة الدراسات التي حصّل شهاداتها بامتياز، طار إلى الولاياتالمتحدة لمتابعة تخصصه في أمراض السرطان، وعاد سنة 1970 إلى لبنان ليعمل أستاذاً مساعداً في الجامعة الأميركية، حيث أسس أول دائرة علمية لفحص الأمراض الخبيثة، وبعد سنتين جرى انتخابه رئيساً للجمعية اللبنانية لمكافحة السرطان. الحرب الأهلية هجّرت البروفيسور سالم إلى الولاياتالمتحدة سنة 1978 حيث التحق بمؤسسة أندرسن في هيوستن، تكساس، لمتابعة أبحاثه. ثم أصبح رئيساً لبرنامج الأبحاث السرطانية في مستشفى القديس لوقا في المدينة نفسها. وفي عهدَي جورج بوش الأب وبيل كلينتون، شغل فيليب سالم منصباً استشارياً لشؤون الصحة لدى البيت الأبيض وتقلد من الرئاسة الأميركية كما من رئاسات دول أخرى أوسمة استحقاق وشهادات تقدير... ناهيك بمناسبات التكريم التي أقيمت وتقام على شرفه حيثما حلّ... كم يبدو غيض هذه العجالة شاحباً أمام فيض نتاج فيليب سالم وحصاد أعماله ومنجزاته، فهو يكتب وينشر ويحاضر ويشارك في المؤتمرات الدولية، وفي الوقت نفسه يعالج ويستمرّ في البحث العلمي، وليس أمام القارئ المهتم إلا مطالعة سيرته الكاملة كي يكتمل لديه الضوء الكافي عن شخصيته الفذة. صدرت أخيراً عن دار «كوارتيت» اللندنية ترجمة كتاب بطرس عنداري عن فيليب سالم. وقامت فرانسيس موراني بترجمة النسخة الإنكليزية وتوضيبها في شكل يوائم توقعات القارئ الغربي. وسيحتفل بإطلاق الكتاب في لندن الإثنين 20 الشهر الجاري في نادي اليخوت على ضفاف نهر التايمز، بين السادسة والتاسعة مساء.