المياه تتهادى في حضن النهر مثل ناقة في صحراء وديعة. في نعومة يدفع النهر قارب العائلة الصغيرة تحت جنح الليل المرتعد. صمته المعتم يفوح بالتوتر. يحيط بالسماوات لكنه يتلفت متوجساً من قدوم القدر المجهول. يدرك أن موعده دنا ليضرب ضربة مفاجئة. المرأة في الزورق تستشعر ذعراً غامضاً كهاربة من بطش مطارد. كان عليها أن تنقذ وليدها الذي تعول عليه إذا أصبح رجلاً. لا ضجيج هناك. كل شيء يتسلل في ثعبانية. أشباح الأضواء البعيدة تفتح عيناً وتغمض عيناً لترصد ما يجري. من دون أن تضطر إلى بذل جهد يبدد راحتها أو يهدد سكون الليل. الدمع كان ساخناً وصارخاً. ينهمر من عيون وردة زوجة رمضان الصياد. اعتاد أن يلقي شبكته في النهر مع منتصف الليل. تكون الأسماك قد آوت وتجمعت بالقرب من ضفة موحلة تغطيها النباتات الموحشة التي طالت وحدتها ونخرت سيقانها آلاف النهارات والليالي. دمعها يهطل بغزارة من عيون ذوّبها الحزن. طفلها الوحيد تقبض على روحه كلابات المرض العاصف. لا تبقي له إلا ذبالة هزيلة من النبض الحائر. يتضور ألماً. سبقه إلى الموت ولدان. رمضان يرتق قلبه المهلهل. يهز شبكته التي لم تستيقظ بعد، ثم يرميها بعزم ما فيه مشيعة بدعواته أن يكرمها الله برزق وفير. روحه تبكي وجسده يرتعد وقد زاغ بصره. لا يكف عن دعوة صاحب الخيمة الزرقاء ليبقي لهما الولد الأخير. الزوجة في الزورق المهتز. لا ترى أحداً في العالم إلا طفلها الأمل. تتأمله كأنه النور الذي يشرق على الدنيا فيحيا الجميع ويورق الشجر وتنفتح لهما بوابات الخير. لم تخرج سمكة واحدة. خرج بعض النفايات من خشب وأكياس. جثث لكلاب وقطط ومصائر ضالة ونحيب وقمر شاحب. تحطمت أعصاب الصياد وناوشت وردة خلسات من الكرى. صرخت فجأة. أفلت الصياد الشبكة وابتلعها النهر على عجل. أدرك أن ولده فارق الحياة، فقفز إليه. أطلا معاً في وجه كومة اللحم الملمومة. هي المرة الأولى التي يفتح فيها حسن عينيه ويطل على والديه. يرى السماء الفسيحة الخالية من النجوم. ضحكت عيناه بوهن وضحكت عيونهم بابتهاج. همّ بالقيام فلم يستطع. طلب أن يشرب وأن يأكل. عادت الدموع تنهمر بغزارة والقلوب تنتزع ابتسامات عليلة. بينما النهر حائر لا يدري ما المصير، مدركاً أن النهاية لا تزال بعيدة، وعليه أن يمضي في سفر طويل.