أحمد الله تعالى الذي أكرمنا بشهر رمضان، وأنتهز فرصته المباركة لأتقدم لكم بالتهنئة به، سائلاً المولى أن يجعله شهر خير وبركة، وأن يعيدكم إلى أمثاله في خير ولطفٍ كاملَيْن. ثم إني تعودت في كل رمضان، خصوصاً في العامين السابقين، تحرير وضبط قواعد إسلامية شائعة، وانتهى بنا الأمر إلى قاعدتين؛ «فتح الذرائع» وان في الإمكان أبدع مما كان «فالتم شملاهما مع شقيقتيهما «سد الذرائع» وليس في الإمكان أبدع مما كان، ما شجعني على الاستمرار في ذات النهج، فوجدت أن القاعدة المشهورة «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح»، ليست على إطلاقها، وأن من غير المستهجن أن نركبها تركيباً آخر لنقول: «جلبُ المصالحِ مقدمٌ على درءِ المفاسد». درء المفاسد مقدَّم: من أهم القواعد الشرعية، قاعدةٌ أشهرَها واستخدمها الإمامُ مالك رحمه الله تعالى وعنونها بقوله: «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح» أو «درء المفسدة أولى من جلب المنفعة»، وعممها الناس من بعده على كل أحوالهم، مع أنه لم يلزمهم بها، بل المشهور عنه أنه لم يوافق أبا جعفر المنصور في حمل الناس على كتابه «الموطأ»، وإلزامهم به، وحجته تفرق الصحابة رضي الله عنهم قبله في البلدان، مع أن من حلف على أحاديث الموطأ أنها كلها صحاح، لم يحنث. تعارض المفاسد والمصالح: إن ما يمكن البحث حوله هو أن جلب المصالح ودرء المفاسد من مباني الشرع الحكيم، فإن تعارضت المصلحة والمفسدة، قدمنا درء المفسدة على جلب المصلحة، أما إن كان الموضوع مشتملاً على مصلحة ومفسدة، وكان جانب الفساد فيها بعيداً أو رجحت عليه المصلحة، فالعمل حينئذٍ بالمصلحة. ومن أمثلة ذلك هل فاقد الماء والتراب يصلي؟ والجواب على ذلك هو أن مصلحة الصلاة أعظم من مفسدة عدم الطهارة، والمطلوب أداء الصلاة ولو كان المصلي على غير طهارة. جلب المصالح مقدَّم: آمل ونحن في أيام مفترجَة أن نحسن الظن بمثل هذه النقاشات، ولا نقل أن هذا الأمر نوعٌ من «قلب الطاولة» على المفاهيم الإسلامية المُسَلَّم بها، بل هو تقليب للنظر فيها. «فجنس فعل المأمور به أعظمُ من جنس ترك المنهي عنه، وجنس ترك المأمور به أعظم من جنس فعل المنهي عنه، وأن مثوبة بني آدم على أداء الواجبات أعظم من مثوبتهم على ترك المحرمات، وأن عقوبتهم على ترك الواجبات أعظم من عقوبتهم على فعل المحرمات». تقديم المأمورات على المنهيات: القرآن الكريم مليء بالآيات التي تقدم المأمورات والمصالح على المنهيات والمفاسد. «ولو كان القصد الأساس من الخلق ومن التكاليف هو ترك المنهيات واجتناب المفاسد، لكان الأفضل تحقيقاً لذلك عدم خلق البشر». ومن ذلك قوله تعالى: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ}، فقدم المولى سبحانه المبشرين على المنذرين؛ والتبشير يكون بالأعمال الصالحة والحسنات والجنة، والمنذرين عكسه. والحديث الشريف بين أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء وقبله الأنبياء جميعاً عليهم السلام جاءوا للتأسيس والبناء والتشييد، أي بالمصالح وعمل الصالحات، «مَثَلي ومَثَلُ الأنبياء ، كَمَثَلِ رجل بنى بنياناً، فأحسنه وأجمله، فجعل الناس يطيفون به يقولون ما رأينا بنياناً أحسن من هذا، إلا هذه اللبِنة، فكنت أنا تلك اللبنة»، رواه البخاري ومسلم. وفي رواية: «فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين». وهو حديث ليس فيه ذكر للمفاسد مطلقاً، وإنما نُص فيه على البنيان والتحسين والتجميل والتتميم، وكل ذلك من المصالح. تطبيقات: «إن الأمور الضرورية أو غيرها من الحاجية أو التكميلية، إذا اكتنفتها من خارجها أمورٌ لا تُرضي شرعًا، فإن الإقدام على جلب المصالح صحيح على شرط التحفظ بحسب الاستطاعة من غير حرج». ومن ذلك تغليب مصلحة ابتعاث الطلبة للدراسة في الخارج، على رغم ما سيعيشوه سمعاً وبصراً في بيئة قد تختلف عن بيئتهم المحافظة، لأن طلب العلم من أصول الدين، ومن قواعد المصالح. ومنه أيضاً اختيار نوعية الأكل، أفضل من التخمة، ثم البحث بعدها عن المهضمات والعلاجات. أيهما أولى؟: كل ما تقدم لا يعني إغفال مسألة المفاسد وإخراجَها من الحسبان، ولكنه يعني أن المفاسد مسألةٌ ضمنية وفرعية وتابعة، وأن التوازن بين تزاحمات المصالح والمفاسد مهم جداً، والأولى إذا اشتملت الأمور عليهما المصلحة والمفسدة أن نبحث بعمق عن الاجتلاب لا الاجتناب؛ أي نبحث عن المصالح لا غير. فجلب المصالح هو الأصل، وهو بصفة عامة أولى وأجدى، خلافاً لما هو سائد. خاتمة: إن إعادة ترتيب الأولويات بصفة عامة، وقضية التقديم والتأخير بين الاشتغال بتحصيل المصالح، والاشتغال بمحاربة المفاسد، تبدو قضية ملحة وعاجلة، مقتضاها أن نعطي العناية والأولوية للأعمال والمبادرات والمشاريع الإيجابية البناءة والمفيدة، حتى لا يستمر تقديم العربة على الحصان، لأن الأولى هو أن نوقد شمعة لا أن نسبَّ الظلام، سيَّما أن شتم الظلام يحسنه ويمارسه كل أحد، والله الموفق، والهادي إلى سواء السبيل. * داعية وباحث إسلامي