«أيها الناس، اسمعوا وعوا، وإذا سمعتم شيئاً فانتفعوا، إنه من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آتٍ آت. إن في السماء لخبرا، وإن في الأرض لعبرا، ليل داج، ونهار ساج، وسماء ذات أبراج»، اجتزأت النص الفائت القصير من الخطبة الشهيرة لقس بن ساعدة الإيادي حكيم العرب في عصر ما قبل الإسلام، وهو الذي استدعته «نجران» لتستعيد معه تاريخاً فارهاً وحضوراً مدهشاً في خريطة جزيرة العرب، قُدمت - من خلاله الشامخة «نجران»- للمشهد الثقافي وكأنها وجدت المساحة المناسبة للإبهار واستعراض إمكانات أهلها الذين أنصفهم التاريخ وكان لزاماً عليهم أن ينصفوا أنفسهم الآن بما تيسر لهم من الأضواء والعقول الشابة المتحمسة كي تشرح وتثبت أن «نجران» لوحة فنية وثقافية متكاملة. عبر هذه التظاهرة الآسرة والحفلة الثقافية السنوية خرجت نجران من انغلاقها وقادت انفتاحاً تعنيه وتنتظره، إنما أعتبره لقطة ذكية تستحق التوقف والإعجاب لمروره على الملامح التاريخية والدينية والثقافية والاجتماعية، وكل مواطن قادته قدماه إلى زيارة نجران سيعود بعدها محملاً بمؤونة كافية من الشيم والنبل وطقوس الضيافة المختلفة المبتدئة بالكلمة الأشهر «ارحبوا»، تلك التي يراها الجنوبي والنجراني موسيقى ذات وقع خاص ولازمة شهيرة تبدأ مع حليب الأم. تجاوز المكان ومعه الإنسان المسلمات الراسخة في ذاكرة أبناء الجغرافيا المجاورة من حقيقة «الكرم» المتجاوز، وفتنة «التماسك» الفريد الذي أحسبه أنموذجاً على المساحة الوطنية، مروراً بالتراث الهائل الأخاذ والفن الشعبي الذي يستوقفك إن كان قلبك أخضر وروحك لا تزال متشبثة ببقايا من نقاء وحنين للزمن البهي الجميل. تم التجاوز بنجاح وتقديم حراك ثقافي لافت برفقة كرنفال فرح وحب وتعايش وصورة بارعة الإبداع لإنسان نجران البار. ولمن يزورها في يوم قادم لك أن تستمتع بالأداء الرجولي في «الزامل والرزفة والمرافع»، وتتذوق وجبات «الوفد والبر والسمن والرقش والحميسة»، على أن لا تعود إلى مكانك إلا والرمز الشعبي «الجنبية» يتوسط خاصرتك، فكما تغريك نجران لا بد من أن تعطيك شيئاً مما يتركها مختلفة وزعيمة لتراث وثقافة أصيلين وذوي عمر طويل. برفقة المهرجان وما صاحبه من فعل ثقافي فاتحة قلب وصعود لأفق جديد ومغرٍ من الانفتاح والالتقاء والتقارب وجذب لأنظار النخب الثقافية والرموز الوطنية كي يشاهدوا كم نحن نحكم ولا نرى! ونبعد ولا نقترب! لأن المصافحة فن لم نتعلمه جيداً والتقييم للأمكنة وأهلها يرزح تحت وطأة التصدير الاجتماعي الرديء «نقلاً عن»، من قبل وبعد المهرجان تستحق هذه الرسالة أن تصل، كما هو الجزء الجنوبي الضارب في عمق التاريخ «نجران» غارق في الأصالة والكرم فهو طاعن في الجمال ومصافح لكل من حوله، انفتاحه يجذبك، وثقافته أصيلة لا تصدأ، ورؤيته مزيج من احتضان الماضي والارتماء على مستقبل هو أهله. نجران حكاية تتجدد على أيدي أبنائها الذين يعشقونها كأغنية لا تموت. [email protected] @alialqassmi