وسط استمرار مظاهر الفوضى الأمنية وتصاعد الخلافات السياسية، دشنت مدينة تعز اليمنية الأنشطة التمهيدية لإعلانها عاصمة ثقافية دائمة لليمن. ويتضمن برنامج العام الأول مهرجانات متخصصة ومعرضاً دولياً للفنون التشكيلية، وملتقى للسرد، وآخر للشعر وندوات وأفلاماً وثائقية وأعمالاً مسرحية وإصدار مجلة ثقافية وكتاب شهري وإقامة منتدى ثقافي دائم وإطلاق قناة ثقافية، بيد أن تنفيذ البرنامج يواجه بصعوبات كبيرة، أبرزها عدم توافر الاعتماد المالي حتى الآن واستمرار حال الاضطراب الأمني وضعف البنية التحتية. ويأتي إعلان تعز عاصمة ثقافية دائمة لليمن في إطار التوجهات السياسية الجديدة التي أفرزتها الانتفاضة الشعبية التي أجبرت الرئيس السابق علي عبدالله صالح على التنحي عن الحكم. وتسعى هذه التوجهات إلى كسر حلقة المركزية الشديدة التي ظلت تحصر جل النشاطات في العاصمة صنعاء، ما أدى إلى شلل وضمور النشاط الثقافي في المدن الأخرى. وتعد تعز كبرى المحافظات اليمنية كثافة سكانية وعرفت بارتفاع أعداد المتعلمين من أبنائها، وهي مثلت المركز الثقافي الأول في الشمال والثاني على مستوى اليمن بعد عدن. وخلال منتصف القرن العشرين كانت مقصداً للمثقفين والمناضلين السياسيين الجنوبيين الهاربين من السلطات الاستعمارية. وتوصف تعز ببؤرة التبشير للأيديولوجيات من ماركسية وقومية وإسلامية وما انفكت تقدم النموذج الأبرز للمثقف الملتزم. ولئن انفتحت تعز على مختلف الاتجاهات الفكرية والسياسية ومثلت حال حراك دائم، سواء لجهة انتشار أبنائها في مختلف المناطق اليمنية ودول الجوار العربي والأفريقي أم لجهة الانفتاح على الآخر الغربي، بيد أن المدينة باتت تعيش حال نكوص توشك أن تهوي بها إلى عصبوية تعزية. ويبرر مثقفون هذه الحالة بالإحباط الناتج من التهميش الرسمي الذي مورس على مدى عقود على منطقتهم. والحق أن ظاهرة النزعات الجهوية باتت تضرب البلاد كلها وربما كانت تعز آخر المناطق استيقاظاً على العصبية وكتماً لها. وعلاوة على الحال الأمنية، ضعف البنية التحتية يواجه إعلان تعز عاصمة ثقافية، بتحدٍ آخر يتمثل في مدى قدرة المثقف التعزي واليمني في شكل عام على تجاوز حال النكوص وكسر حلقة العصبيات السياسية والمذهبية والمناطقية. وتشهد تعز حالياً صراعاً سياسياً يصل أحياناً إلى العنف. واللافت على هذا الصراع نشوبه بين مكونات الانتفاضة الشعبية التي رفعت شعار الحرية والدولة المدنية، ما يؤكد غياب ثقافة الديومقراطية عند مختلف الأطراف اليمنية وفق ما يرى البعض. ويرشح من وقوع المثقف اليمني في مربع العصبيات والعنف إخفاق الخطابات الأيديولوجية في إنبات ثقافة ديموقراطية إنسانية. وما انفك مثقف السلطة ومثقف المعارضة على حد سواء، يتمترس خلف السياسي بوجهيه الأيديولوجي والقبلي. وقلما استطاع المثقف أن يجترح هويته الخاصة والمستقلة. والراجح أن إعلان عاصمة ثقافية لليمن لن يخلق معجزة ثقافية، حتى وإن توافر المال اللازم لها. وجل ما ستفضي إليه تجربة العاصمة الثقافية هو توسيع مساحة السائد وإعادة إنتاجه. وكانت تجربة المؤسسات الثقافية غير الحكومية أظهرت في دورها عدم قدرة على تجاوز الولاءات السياسية والمناطقية.