عاش مجتمعنا تحولات عدة في كل المجالات، البعض كان يرى أن البدايات الحالمة تم إيقاف اطراد نموها ووأد حلمها وجعلتنا نخسر الكثير زماناً ومكاناً. عبدالعزيز القاسم من بيئة شرعية خرج، وفيها مارس العلم والعمل، عمل في القضاء فترة وغادره بطوعه ليمارس أنشطة بعيدة عن منصات القضاة وأحكام المداولة. هذا التأسيس الذي تشكل بداخله منحه القدرة على قراءة الحدث واستشراف المتغير وصنع الفارق. كانت له صولاته مع بعض الأطروحات الجديدة التي يعترف ضيفنا بقصورها وقلة وعيها آنذاك ولكن لم يكن بالإمكان أفضل مما كان. القاسم يرى أن الفصل بين الشريعة والقانون منحنا هوة لا تردم بسهولة، وجعل كل شيء له وجهان وإجابتان ورأيان، ما جعل الحق يتأخر والبينة لا تظهر. يعيب ضيفنا على علمائنا عدم قدرتهم على الريادة العالمية ومنحهم البساط لآخرين سواهم، ويرى أيضاً أن ما حدث في الثمانينات للحداثة وأهلها إنما هو سوء طرح من أهلها للمجتمع استثمره الإسلاميون فألبوا عليهم كل شيء. ضيفنا يملك رأياً مستقلاً يورده التهلكة أحياناً، لكنه لا يهتم ويمضي في طريقه متسلحاً بالعلم والخبرة والممارسة، ويعلم كل من يعرفه أن لا شيء يشغله مثل نماء هذا الكيان بكل مرافقه وأدواته. مع عبدالعزيز القاسم نزعم أن هذا الحوار لن يمر بسهولة، وأن من يقرأه لن يخرج خالي الوفاض..! هل انقلبت على تعليمك وتقاليد عائلتك المحافظين؟ - التقاليد التي عرفها التعليم الديني الذي تخرجت منه ليست ثابتة؛ لقد حدثت تغيّرات إيجابية كثيرة في التعليم الديني، كان التعليم القانوني - على سبيل المثال - محظوراً، وصار جزءاً من مقررات كليات الشريعة اليوم، وهكذا التقاليد العائلية. إن المجتمع السعودي يكتشف طريقة نحو التعددية والتعايش مع الاختلاف وسعة الشريعة على نحو لم يكن مألوفاً لديه، خصوصاً في المنطقة الوسطى. البيئة القانونية في بلادنا هل اختطفها أهل الشريعة من أهل القانون والأنظمة؟ - البيئة القانونية بل التشريعية عموماً ذهبت ضحية أنصاف القرارات التي اتخذها الساسة، وأنصاف التجديد الذي اتخذها الفقهاء، فالسلطة اكتشفت باكراً أن إدارة الدولة أداتها الأساسية التشريع بوضع الأنظمة، وما يتفرع عنها من لوائح، والفقهاء أدركوا ذلك كذلك. فعلى سبيل المثال رئيس القضاة - رحمه الله - وافق على صدور نظام للمحاكم الشرعية حين كان أداة لتوحيد القضاء بين مناطق المملكة الوليدة آنذاك، بل أدار المحاكم بمقتضى تلك الأنظمة، لكن الدولة لم تذهب للخطوة التالية بدمج التعليم الحقوقي القانوني والشرعي في مؤسسات موحدة، والفقهاء استمروا في معارضة التشريعات التي لم تحمل لهم سلطات جديدة. وخلقت هذه الظاهرة كارثة حقوقية لا نزال نعاني ويلاتها حتى اليوم؛ وتسببت في انهيار في النظام الأخلاقي للمجتمع أعتبره فريداً من نوعه في تاريخ المجتمعات؛ فالرشوة حلال حرام، وأكل المال بالباطل حلال حرام، والاحتكار حلال حرام، وظلم المرأة والطفل حلال حرام.. بسبب ازدواجية النظام التشريعي في البلاد. الشريعة والقانون لماذا النظرة تجاه خريجي القانون غير النظرة تجاه خريجي الشريعة؟ - سأكون واضحاً في هذا؛ لأن خريجي القانون في نظري غير مؤهلين لإصدار الرأي أو الحكم في مسائل الشريعة، وللأسف أن خريجي الشريعة كذلك في ما خص القانون، وهذا نتاج الخطأ الأساس في السماح بوجود نظامين متنافرين. كيف هي الثقافة القانونية في مجتمعنا؟ وكيف ترى مستقبلها؟ - مجتمع المملكة لا يزال «رعية» بالمعنى السلبي للرعية، لم نصل بعد إلى مستوى مجتمع الحقوق، أو القانون، أو بتعبير آخر مجتمع حكم الشرعية.. فالعلاقة بالمسؤول أهم كثيراً من منطوق قواعد القانون أو فتاوى العلماء. والمجتمع ليس غبياً، فقد فهم هذه الحقائق ولم يبالِ بتتبع حقوقه كما هي في المدونات التشريعية، وإذا أعيته الحيلة لجأ إلى وسائل ربما غير مشروعة.. ليكون لديك مجتمع واعٍ بحقوقه، يجب أن تكون لديك حقوق مكتوبة، يحترمها القضاء، وتطبقها السلطات. تقف على أرض زلقة بين ضفة التنويريين والتغريبيين... أين تجد موطئاً ثابتاً لا تهمة فيه؟ - الأساس المتين بين الضفتين هو الاستقلال والتفكير الجريء؛ نحن في مرحلة أو نهايات مرحلة من الجمود التغريبي! والجمود التراثي.. والموقفان خاطئان. لإيجاد الطريق الصحيح علينا أن نجدد النظر، والفهم، وأن نستدخل في ثقافتنا ومعرفتنا ما أنجزه الآخرون، وهذا أساس الشريعة الذي لا ريب فيه؛ فرسالة محمد صلى الله عليه وسلم ليست قطيعة مع الرسالات وثقافات «الجاهلية»، بل كانت استكمالاً لكمالاتها، وتمحيصاً لما مازجها من الباطل. ألا ترى في العلمانية فيض حكمة تنزع غطاء السحر عن هذا العالم؟ - أقول بجرأة إن العلمانية مجرد وهم؛ أقصد العلمانية كما صوّرها المفكرون العرب، لا توجد دولة محايدة ثقافياً! بما في ذلك الدين كأحد مكونات الثقافة، وهذا واضح جداً في دول العلمانية بشقيها السلبية أي العلمانية البشوشة مع الدين، أو الإيجابية أي الضارية تجاه الدين. ولنأخذ أميركا وبريطانيا كعلمانيتين سلبيتين نجد الدين كمكون ثقافي عنصراً فاعلاً في تكوين قرارات الدولة، والأمر أوضح وللمفارقة في العلمانية الضارية مثل فرنسا وتركيا حيث تحول مكون ثقافي ما إلى دين بديل تنشأ بموجبه حقوق ومحظورات. والسحر الذي تشير إليه يمكن نزعه بتفكر وتفلسف ديني ينزع عن الدين ما يدعيه المتدينون ديناً، وهو سياجات وقائية احتموا بها، لكنهم أبعدوا الناس عن روح الدين. حرب تحرير الكويت.. هل كانت منعطفاً في المجتمع السعودي؟ وكيف ترى استفادتنا من تلك التجربة؟ - أزمة الكويت برمتها كانت زلزالاً أعلن رسمياً وفاة نظم سياسية انقضى عمرها، ولا تزال المنطقة تعاني تداعيات ذلك الزلزال، إننا جزء من أمة عظيمة شرفها الله برسالته الأخيرة، وكان محالاً أن تضمحل تلك الأمة كما توهم ساستها في لحظات بائسة من ظروف المنطقة. لكن الله تعالى لطف وسلم، وربما بدأنا طريق العودة شيئاً فشيئاً لنكون بعد أن لم نكن شيئاً مذكوراً. كنت ممن أسهم في إصدار بيانات وجمع تواقيع لأجل الإصلاح السياسي.. ما تقويمك لحراك تلك المرحلة.. وهل كان بالإمكان أفضل مما كان؟ - غالب الظن أن ليس بالإمكان أفضل مما كان؛ ففي سنة أولى سياسة أو حياة عامة من الطبيعي ارتكاب أخطاء جسيمة كتلك التي وقعت في التسعينات، خصوصاً في الانفصال عن التيار العريض من المجتمع وتوهّم قدرة المجتمع على الانتقال من العدم في المشاركة العامة إلى الوجود النشط والمجازف. الآن تبدلت الظروف جذرياً، وأتمنى من الله تعالى اللطف، وأن يكون الانتقال إصلاحاً داخلياً ومن موقف قوة وتمكين. العنف والمذهبية ما الفرق بين ظاهرة العنف وتيار التشدد في المذهبية الإسلامية؟ - من الصعب الربط بينهما؛ فبعض رواد العمل العنيف غير متشددين، كذلك كثير من المتشددين غير عنيفين. لكن بالضرورة العنف يستمد جزءاً من شرعيته من فكر الغلو؛ لتهويل تبرير عنفه، ولنزع شرعية المخالفين. ثقافة القوة العسكرية التي كفلها القرآن لأتباع هذا الدين لا ينكرها أحد.. ولكن كيف لنا أن نسلبها من الفرق الجهادية والسرايا الإرهابية التي كان أكبر الشيوخ المعتدلين أساس تكوينها في سابق الأعوام؟ - الإسلام الدين الخاتم، ولطبيعته هذه ربما كان لحمايته وللمؤمنين به شأن جليل، تمثّل في حضور مسألة الشوكة وتنظيم الحماية المسلحة للأمة، ولهذا روي في مسند أحمد أن ذروة سنام الإسلام الجهاد. بيد أن ذلك شأن للأمة وليس لمبادرات الفرد، أو آحاد المسلمين. وليس للأفراد الافتئات على مجموع الأمة بإعلان الحرب والسلم؛ في المقابل قد تضعف الأمة ويدركها الضعف حتى تفرّط في حماية حدودها وهيبتها، عندئذ تنتقل المسؤولية إلى التكليف الفردي، وهذا ما أوجد مفهوم الرباط والثغور؛ إذ كانت للمتطوعين اليد العليا في حماية الأمة سواء أكان ذلك في شمال أفريقيا أم الشام وغيرهما وهذه العلاقة الحرجة بين مسؤولية الأمة التي تقاصرت عن إنجازها الأمة وانتقال المسؤولية للفرد المكلف هي التي تخلق الالتباس، وقد تضاعف هذا الالتباس حين دعمت الحكومات العربية والإسلامية مبادرات الجهاد الفردية في أفغانستان، وأعادت إحياء المبادرة الفردية من دون يقظة للمخاطر الكبيرة لخلق هذا الالتباس. هل السياسة قيد لا يراه إلا أصحابه... أم أن السياسة فن الحياة كما يتوقع منك الآخر؟ - السياسة مزلة أقدام، ومورد للمهالك. وفي بيئاتنا العربية لا مكان للفرد في المجال العام، ربما باستثناء بوادر أشرقت من بلدان الربيع العربي، بيد أن وسائل التواصل الاجتماعي أعادت اليوم رسم خريطة المسرح السياسي، ومنحت الفرد موقعاً لم يكن يحلم به قبل أعوام، كما أخضعت السياسيين لرقابة لم يألفوها كذلك. امتلاك مركز للأبحاث ألا ترى أنه من أجمل المهن.. إن نجحت كنت نجماً.. وإذا زلق بك الطريق كنت قد قدمت للنخبة المثقفة كتباً! - مراكز الأبحاث أداة للتنمية الفكرية، لكنها كما تفضلت أمام تحديات جمة؛ أبرزها قيود حرية التعبير، والمخاطر التي تنشأ عن تجاوز هذه القيود. ومجرد إنتاج الكتب ليس هدفاً، الهدف الفعلي هو الإسهام في تحسين حياة الناس وخياراتهم. ما هو أفضل مركز للأبحاث في العالم العربي؟ - لست محايداً في هذا المجال، لكني أرى مركز دراسات الوحدة العربية رائداً في مجاله، كذلك مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية له بصمات في مجال تخصصه. المأسوف عليه هو ضآلة إسهام المملكة في هذا المجال على رغم مكانتها الاقتصادية والسياسية والدينية. لكن أتوقع نهضة كبيرة لهذه المراكز بعد الربيع العربي، خصوصاً في تونس والمغرب. أنت مفكر عقلاني.. كيف تتعامل مع قدسية النص؟ - العقلانية مفهوم ملتبس، وكثيراً ما يوظّف بشكل مغرض، نعم هناك من يتسامى على النص الشرعي، ويتوهم قدرته على تجاوزه معرفياً، وربما إدارته. لكن في كل الأحوال العقل - باعتباره كمية عمليات تتعامل مع بيانات وليس بكونه معطى مستقلاً - هو شرط التكليف وأداة توظيف النص فهماً وتنزيلاً. التطرف في مناهج التعليم هل صحيح أنك أول من علّق الجرس على التطرف في مناهجنا التعليمية؟ - بكل تأكيد لم أكن الأول، لكن دراستنا المقررات الشرعية لمعرفة أين الخلل ربما تميزت بالاستقراء والمقارنة، والاختصار.. أما الحديث عن الغلو في فكرنا الديني فليس جديداً أبداً، وهو جوهر المشكلة، والمناهج مجرد انعكاس له. ففكرنا الديني لا يزال مسكوناً بروح الثورة والحشد التي تميزت بها فترة التأسيس، وهي ظاهرة سياسية وفكرية معروفة عبر التاريخ. والعتب على صناع السياسة هو عجزهم عن الانتقال من فقه الثورة إلى فقه الاستقرار والحقوق والواجبات، ولئن كان صحيحاً أن تجاهل ذلك جزء من توازن ما في الحقل المحلي، فقد صار خطراً مصيرياً. لذا يجب التصحيح وعبر مختلف المستويات وبشكل منهجي، وأساس الإصلاح هو العودة إلى أصول الشريعة في شرعية الاجتهاد والتعدد، واحترام هوامش الفسحة والإباحة والتنوع، وهو ما كان عليه مجتمع النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته من بعده. حتى ظهر فكر الخوارج، وصراعات السياسة.. وصار التعامل مع المخالف لا ينظر إليه إلا من خلال حادثة صبيغ مع عمر، وهي واقعة عين، ولرجل من ذيول تيار معروف بغلظته وفجاجته.. وهي واقعة مغمورة في عشرات الأدلة والوقائع النبوية وغيرها مما يدل على ارتباط التكليف بالقدرة على استيعاب الحجة. أي دراسات مركزك تفخر أنها من صنع يدك وعقلك؟ - لدينا في الشبكة العربية للأبحاث والنشر سلسلة مشاريع، ونعمل بمنهجية على مراجعة الأساسيات بشكل يعود بنا إلى المعرفة من أصولها المحايدة وفي أحدث صياغاتها وأوعيتها، لنتمكن من تجاوز ما ران على جدلنا الفكري من جمود وانحسار، كانت أبلغ نتائجه في انزواء الفكر الديني عن مصاولة الحداثة ونقدها وتجاوزها، لتكوين رؤية مسددة بالوحي، مستوعبة للفكر الإنساني. ومن مشاريعنا في هذا المجال محاولة لتجديد علم أصول الفقه باستيعاب ما استجدّ في حقول التأويل، ومنها ترجمة ونقد التراث الاستشراقي في مجالي علوم القرآن وعلوم السنة، ومحاولة تجاوزها بالتعاون مع علماء ثقات استوعبوا الحداثة ونقدوها، ونتوقع طرحها في العامين المقبلين. كذلك من مشاريعنا معجم علم الكلام في الحقل المعرفي ومقارنته بالمعجم اللاهوتي المسيحي واليهودي وبالفلسفة الحديثة، بهدف تسليط الضوء على التراث الفلسفي الإسلامي التوحيدي القرآني، الذي تعامت عنه عيون النقد المذهبي وجعلت من الفلسفة الحديثة وكأنها قطيعة جذرية مع التراث الكلامي الإسلامي. على رغم فداحة هذا الخطأ كما هو مبرهن عليه في تراث قليل من الاستشراق، وبعض الدراسات العربية الرائدة على رغم عدم شهرتها، مثل أعمال المفكر الليبي الراحل محمد عريبي ومقارنته بين تهافت الفلاسفة ونقد العقل الخالص لعمانويل كانط.. وغيرها من الدراسات في مجالات اللسانيات والتفسير، وعلم الأعصاب والفلسفة، وتحديداً نظرية المعرفة، ودراسات العلم والفلسفة والإيمان بما هي مقاربات توظّف أحدث المعارف في الفكر البشري لتستكشف العلاقة بين الدين والعلم في حدودهما الملتبسة. قميص عثمان من يرتديه هذه الأيام؟ - للأسف الجميع يرتديه، وربما حق جزئي، نحن مجتمع لم ينزع سلاحه بعد في حواراته وتمدنه، وهكذا مجتمعات الفردية والاستبداد سياسياً ودينياً واجتماعياً، مجتمعات تدار بلغة القوة، وكأنها لا تؤمن بحرية الاختيار التي شرّف الله تعالى الإنسان بحملها وابتلاه بها، فيما أبت السموات والأرض والجبال أن يحملنها وحملها الإنسان. وأساس روح القوة والعنف التي تشربتها ثقافتنا واحد، وهو قلق الشرعية، القلق الذي يجعل من الحوار أداة تعرية للامتيازات الزائفة للمستبدين، أباً كان أو شيخاً أو حاكماً. لحسن الحظ أن القوة التي يستند إليها هذا الاستبداد بدأت تتفكك، وتلك القوة هي قدرته على تغييب الفرد أو الرأي العام الخام غير المجيش والمستتبع، وهذا التغير الجذري يفتح آفاقاً كبرى لسقوط القمصان غير الشرعية. الحرية أم الخبز سيدنا الفقيه.. أيها أغلى في سوق الدول.. الحرية أم الخبز؟ - لا أظن المفاضلة بينهما ممكنة، كلاهما ضرورة للإنسان السوي، الحرية هي أساس تحليق الإنسان في عوالم الممكن فلسفياً وحضارياً وجمالياً.. والخبز قوام الجسد ووقوده قصير الأجل، ولا حياة للإنسان من دون الحلم والتحليق وراءه، ولا بغير الخبز قوام لأوده، فمن دون فسحة الإباحة يتحلل الإنسان فرداً ومجتمعاً ودولة، ومن دون الخبز يموت جوعاً.. فأين المفاضلة لاختيار أحدهما؟ في الواقع العربي عموماً، بأي الملفات يبدأ التجديد، السياسة أم الاقتصاد أم المجتمع أم الفكر والمعرفة؟ - التجديد ليس كتلة أو حجراً، تأخذ هذا وتترك ذاك، التجديد باختصار سيرورة نحو النجاعة، مسيرة خالدة لتجريب أفضل العوالم الممكنة، هي وظيفة عقل الإنسان وحلمه وتحليق روحه نحو الأمل، والمجتمع يتقاسم التجديد عمودياً وأفقياً. نحن في حاجة واضطرار إلى التجديد في الاقتصاد لنبتكر نموذجنا الإنتاجي والتوزيعي، لنستثمر قدراتنا ونحصد ثمارها ونتقاسمها بعدل وأخلاق ونزاهة. وفي السياسة نحن في حاجة إلى القوة والسطوة والهيبة الجامعة، لكن هذه القوة يجب أن تنغمس في الأمة وتتشرب الشرعية، وتخضع للمساءلة والمشاركة في الاختيار والمراقبة. والقوة السياسية يجب تفتيتها بقدر ما لئلا تتغول وتهلك نفسها وتهلك الدولة والمجتمع، والتفتيت يكون بمشاركة شعبية أوسع، والفصل بين رأس الدولة والحكومة، وتنشيط الحكم المحلي. وفي الفكر كذلك تتشوف الأمة إلى استيعاب الحداثة، والتأسيس لتجاوزها، ولن يكون ذلك إلا بالترجمة الناقدة، والعمل البحثي المؤسسي كالذي نراه في الجامعات الحديثة الكبرى شرقاً وغرباً. أي الحرام الذي ضيّق الخناق على الحلال؟ - هو الحرام الذي افتراه الإنسان على الله بغياً بمحض التسيّد، وبابه الأوسع سمّوه سد الذرائع، وهو تطبيق مفرط للقواعد المعروفة فقهياً وأصولياً. «ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف».. من ذا الذي ألصق الدونية بالنساء في بلادنا؟ - تولى أشده الذين اختلط في عقولهم مفهوم العفاف بمفهوم السيطرة ومفهوم الإفراط في التحريم الذرائعي. كيف لنا أن نصنع أزهر سعودياً له الكرسي البحثي الأول دينياً؟ - تستطيع المملكة بقدراتها الاقتصادية، وبموفور الخامات البشرية الشرعية أن تحدث نهضة شرعية غير مسبوقة منذ قرون، لو أنها قررت تنمية التعليم الشرعي بحركة تشبه حركتي ابن تيمية من جهة والغزالي من جهة أخرى، باستيعاب تحديات المعرفة المعاصرة واقتناص الموهوبين في برامج بحثية تستوعب وتتجاوز. ولو قُدّر لنا هذا لتربعنا على عرش الريادة الإسلامية والعالمية.. مؤلم ومهين أن تتصدر دراسات جامعة ميغيل، وأوكسفورد وكامبريدج وجامعات برلين وغيرها حقول الدراسات الشرعية، ونغيب عن المولد غياباً مخجلاً.. والأدهى أن نغتر بهزالنا ونتباهى به ونحاول تصديره. والمبهر أن تحديات الربيع العربي ستجعلنا تحت ضغوط عمودية مميتة إن لم نتحرك وسريعاً نحو ذلك. الحداثة ومابعدها هل صحيح أننا نحن لا نمتلك الخيار للعودة إلى ما قبل الحداثة؟ - نحن موجودون في مرحلة ربما لم توجد تاريخياً! نحن موجودون في عوالم متناقضة، نحن في الجاهلية، وفي صدر الإسلام وعهد الأمويين والعباسيين، وفي ردهات هارفرد ومعامل «آبل» وصالات «غوغل». نحن في العالم عبر عوالمنا المتناقضة، نحن في العالم الأول في مجالات، ونتقدم بعضه في مجالات، وفي العصر الجاهلي في ميادين. نحن نهضة تكتيكية نصبّ المال صباً لنصنع حديقة الذهب تحت ظل سارية لبئر معطلة! نستطيع النفاذ إلى الحداثة وتجاوزها عبر برامج مخططة ورؤية واضحة وحزم في التنفيذ، وقبل ذلك وبعده بحلم واضح المعالم يخرجنا من ضيق الآيديولوجيا إلى سعة الإنجاز والتجدد. لماذا الإسلاميون اعتبروا الحداثة الأدبية السعودية مثقلة بالفلسفات وهي لم تكن كذلك؟ - كان الحداثيون ساذجين، والإسلاميون كذلك! معركة الحداثة في نهاية الثمانينات كانت معركة حوار وتفاعل ثقافات امتزجت بروح الاستبداد والقهر، حاول الحداثيون اغتصاب منابر الثقافة فنسفها على رؤوسهم الإسلاميون. كتابات حداثة الثمانينات كانت غافلة عن المحيط الاجتماعي وشروطه، وكانت حداثتهم حالمة. لكي تزرع الحداثة عليك أن تحترم الأساسيات التي يتكون منها المجال التداولي الذي تتحرك فيه. من دون هذا الاحترام تقضي على وجودك. ورد الإسلاميين ذهب متجاوزاً أخلاق الحوار والنقد فاقتحم البغي والتشويه. الحداثيون كانوا يحاولون بعث الروح من جديد عن طريق الفن، فإذا تحرر الفن وتحرر الشعر تتحرك النهضة للأمام.. هل ترى منهجهم هذا صحيحاً؟ - أتمنى أن تكون تلك رسالة حداثة الثمانينات، لكن الذي بدا لي أنها حركة داخلية تحتور نفسها، لم تملك مشروعاً. ألا تشعر أن أكثر السلفيين تشدداً من أكثر الناس انغماساً في الحداثة في حياته اليومية؟ - الحداثة الاستهلاكية ليست فعلاً فكرياً، هي حاجة وإشباع لها غالباً. لكن اللافت أن التيار السلفي يتغيّر بسرعة لم تكن متوقعة، ولنستذكر مواقفهم من مصدر السلطات والانتخاب وإقبالهم المميز على التراث الفكري العربي والعالمي.. ثم زهور تتفتق. من سمات الكتابة الإسلامية في هذه المرحلة أيضاً أن الفوضى واضحة وتجد العموميات لدرجة الشعور بعدم وجود قضية أساساً؟ - اتفق معك. الكتابة الإسلامية في المملكة مشدودة بشكل جمودي إلى هيكلة الكليات الشرعية وتقسيمها إلى حقول مفككة، وتخضع لرقابة تفتيشية قتالة للاستقلال العلمي والأكاديمي، هذا في الجامعات. بيد أن الكتابة الأهم فرضتها حركة السياسة وتداعياتها الفكرية، خصوصاً بعد أزمة الخليج الثانية، وجاءت التحولات الجذرية مع أحداث سبتمبر، والربيع العربي، وتميزت الكتابة باقترابها التدريجي من الإنسان ومصالحه وتمدنه، بمواقف متعارضة لكنها كوّنت ثروة فكرية ثرية، وتمهد لاستقبال الأعمال الفكرية الكبيرة. الثقافة السعودية تعيش في كل الصراعات ولذلك حجم الإنتاج المعرفي ضعيف جداً.. حتى متى هذا الأتون؟ - موقعنا العربي والإسلامي، الأحداث الكبار التي كنا طرفاً فيها ألقتنا في قلب معظم الصراعات حولنا وبعيداً عنا، والمفارقة أن هذه الصراعات هي محرك أهم الأفكار التي يتداولها الحقل الثقافي لدينا، وهذا القلق يمهد عادة للتأسيس الفكري الأكثر عمقاً وأبعد غوراً. الفوضى جعلتنا نبحث عن فتوى لمهرجان الزهور وإقامة السوق الخيرية ولبس الخاتم والقبعة.. أما من رجل رشيد؟ - المجتمع ضحية صراع، وكانت الفتوى أحد إفرازات فوبيا النجاة لدى الآحاد المذعورة تحت الخطاب الذي اعتمد إثارة القلق لتيسير السيطرة. كيف لك أن تقدم لنا صورة كلية للعدل في ظل الملكية العقارية البيضاء؟ - الملكية العقارية في المملكة تتعرض لجور صارخ في توزيعها وسياساتها؛ فالقسمة لم تكن بالسوية، وحين نشأت الملكيات الفردية لم تبادر الدولة إلى امتصاص آثارها الاقتصادية والاجتماعية المدمرة بفرض الرسوم وجباية الزكاة. والسبب في ذلك عدم اهتمام صناع السياسات بالدور المحوري لملكية الأرض وتوزيعها العادل في التنمية بشكل عام. والسبيل الأساسي لمعالجة ذلك بإسناد سياسات الأراضي والإشراف على هذا المورد التنموي المحوري إلى هيئة تنظيمية عليا تخضع لإشراف مكين من المجالس البلدية ومجلس الشورى إضافة إلى القيادة السياسية للدولة. «تويتر» هل هو السلطة الأقوى الآن؟ لِمَ هذا الزخم الهائل له بين الأوساط عندنا؟ - إذا كان الإرهاب أطلق مارد المبادرة الفردية العنيفة، فإن «تويتر» ووسائل الاتصال الاجتماعي أطلقت مارداً ناعماً، هو مارد المبادرة الفردية السلمية، لهذا كان أثره مدوياً في الحياة العامة، ويمكن استشراف تقويضه لنظم اجتماعية برمتها، وأكثر ما بدا ذلك في التغيير الذي أحدثته فكرياً وسياسياً واجتماعياً. كمشرع قانوني.. هل «تويتر» أداة صالحة للحكم على صاحبه وتطبيق العقوبات ضده؟ - بكل تأكيد تعتبر العمليات الإلكترونية بما فيها التغريد سلوكاً خاضعاً للتشريع، والتقنيون يستطيعون إسناد الفعل لصاحبه بوسائلهم التقنية، والقضاء يطبق قواعد الإثبات وينزل الأحكام بحسبها.