لا شكّ في أنّ الكتابة لليافعين وعنهم تكون محفوفة بالكثير من المخاطر والمزالق، ذلك أنّ هذه المرحلة التي تُوصَف أحياناً ب «السنّ المحيّر»، تبدو شائكة ومبعث حيرة وحذر شديدين، لأنّ الفتى في هذه المرحلة يتعرّض لتوتّرات وعوامل كثيرة تشكّل وعيه، كما أنّه يتعامل بنوع من الرومانسيّة مع العالم، ويكون لديه الكثير ليأمله أو يحلم به، لذلك فإنّ أيّة مقاربة لواقعه أو لجوانب منه تستوجب التمهّل والدراسة، ويزداد الأمر صعوبة حين يكون موضوع المعالجة من ذوي الاحتياجات الخاصّة. عن عالم اليافعين ذوي الاحتياجات الخاصّة يتحدّث الفرنسيّ جون لوي فورنييه (كاليس 1938) في روايته الفائزة بجائزة الفيمينا 2008 «أين نذهب يا بابا؟» (ترجمة أيمن عبد الهادي، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب). ينقل سرده على لسان أب مفجوع بطفلين معوّقين، يروي كيف أنّه يحاول التكيّف مع واقعه، ومسايرة ابنيه اللذين يربكانه، ويشكّلان له مصدر ألم ومعاناة من جهة، وبهجة من نوع خاصّ من جهة أخرى. يبدأ السارد بكتابة رسالة إلى ولديه، توماس وماتيو، اللذين يفقدهما تباعاً حين بلوغهما حوالى الخامسة عشرة من عمرهما. الرسالة التي لن يتمكّن أيّ منهما من قراءتها ولا الاطّلاع عليها، تأخذ منحى آخر، وتتوجّه إلى القرّاء وإلى الذين يعانون حالات خاصّة تفترض منهم الصبر عليها وتحمّل تبعاتها من دون تأفّف أو تذمّر. يروي أنّه بفضل ابنيه كان متميّزاً عن آباء الأطفال الطبيعيّين، ولم ينشغل بتعليمهما ولا بتوجّههما المهنيّ، لم يتعرّض للتردّد في الاختيار بين تخصّصهما العلميّ أو الأدبيّ، لأنّه علم باكراً أنّهما لن يفعلا أيّ شيء. ويذكر بمرارة مؤلمة، تحمل السخرية المفجعة، أنّه استفاد مجّاناً لسنوات طويلة بسيّارة مجهّزة، وذلك لأنّ الحكومة كانت تعطي لآباء الأطفال المعوّقين سيّارات خاصّة. يصف كيف أنّ ابنه توماس لم يكن يعرف التلفّظ إلاّ بجملة واحدة يظلّ يردّدها دائماً، وهي التي تحمل سؤال والده عن وجهتهم: «إلى أين نذهب يا بابا؟» السؤال الذي ظلّ الأب يبحث له عن إجابات غير مقنعة. في حين يدأب الثاني على رمي كرته بعيداً ثمّ يطلب من والديه إعادتها إليه. يصوّر الأب الراوي محاولة الآخرين طمأنته والتعاطف معه في مسعى للتخفيف من مصابه وخيبة أمله بابنين معوّقين، يحتاجان إلى عناية وتفرّغ دائمين. وحين يفكّر أنّه سبّب مجيء ولديه إلى الحياة وأنّه ربّما أورثهما بعض الجينات والعلل، يتولّد لديه شعور بالذنب ورغبة في طلب الصفح منهما. ويعترف بنوع من القهر أنّ المآسي تحلّ بمَن لا يتوقّعونها ومن لا يفكّرون فيها. ويحكي كيف أنّه أُعْطِي دور الأب المثير للإعجاب لصموده وتفانيه في خدمة ابنيه ورعايتهما وتلبية حاجاتهما والقيام بواجبه إزاءهما. وفي الوقت نفسه كان يُقابَل بشعور من الشفقة الممزوجة بالتأسّف والمواساة لحاله وحال ولديه. ويبرز كيف أنّه عندما يكون لدى المرء طفل معوّق فإنّه لا يكتشف ذلك على الفور، بل يبقى الأمر مثل مفاجأة. يصف الأب شعوره حين دُعي إلى برنامج تلفزيونيّ لتقديم شهادته بصفته أباً لطفلين معوّقين. تكلّم عن طفليه، وأكّد حقيقة أنّهما غالباً ما يضحكانه، ويحكي أنّه حين يلطّخ طفل منهما نفسه وهو يأكل كريمة الشوكولا فإنّه يضحك الآخرين في حين أنّ ذا الإعاقة لا يُضحك أحداً ، بل يستثير الشفقة أو السخرية. يتحدّث أيضاً عن بعض الجهود التي تُبذل لدمج المعاقين في سوق العمل، إذ يتاح للشركات التي توظّفهم ميزات ماليّة وتخفيض للنفقات. يفكر في ابنيه وهما في سوق العمل، ثمّ يبتسم بمرارة وهو يتصوّرهما في تلك الحال، وما يمكن أن يقدّماه بجسدهما الضامر وقصور عقلهما البادي. ولا يخفي مرارته حين يمرّ بالشارع ويرى متسوّلين يستعرضون عاهاتهم لاستدرار عطف الآخرين وشفقتهم، ويفكّر في نفسه أنّ بمقدوره فعل ذلك، والتغلّب على هؤلاء المتاجرين بإعاقاتهم لكنّه يرفض هذا السلوك رفضاً قاطعاً. حين يرى ابنيه نائمين يفكّر فيهما ويتأمّل بالذي يمكن أن يحلما به، وهل يكونان في الحلم نبيهين أم أنّهما لا يختلفان عن الواقع. يدرك أنّ الآباء يهتمّون بأطفالهم عندما يكبرون، حين يصبحون فضوليّين، عندما يشرعون في طرح الأسئلة، وأنّه انتظر تلك اللحظة، لكن لم يكن ثمّة إلا سؤال واحد: «أين نذهب يا بابا؟». كما يدرك أنّ «الهديّة الأكثر جمالاً التي يمكن أن نمنحها لطفل هي الردّ على فضوله، أن نهبه مذاق الأشياء الجميلة»، لكنّه مع ماتيو وتوماس لم يحظَ بتلك الفرصة. يؤكّد السارد في رسالته عدم استساغته كلمة معوّق التي يرى فيها بعض الجناية اللغويّة على الطفل، وينوّه إلى أنّه لا ينبغي الاعتقاد أنّ الحزن على وفاة طفل معوّق أقلّ، بل يؤكّد أنّ الأهل ينتابهم الحزن نفسه على وفاة طفل طبيعيّ. وأنّ موت مَن لم يكن أبداً سعيداً مرعب، وكأنّه جاء إلى الأرض ليقوم بجولة سريعة فقط لأجل أن يعاني، وعن ذلك يصعب الاحتفاظ بذكرى ابتسامة. رواية لوي فورنييه موجعة من حيث الإشارة إلى مكامن بعض العلل، وتعامل المجتمع المتوجّس مع ذوي الاحتياجات الخاصّة، وخصوصاً حين يعانون من قصور ذهنيّ، والنظر إليهم على أنّهم أشياء غير نافعة. إنها رواية مواجهة تعكس مدى قسوة ووحشيّة الإعاقة على الأهل الذين يرغبون ككلّ الآباء والأمّهات برؤية أبنائهم يكبرون أمام أعينهم، وأمنيتهم بأن يحقّقوا في حياتهم مراتبَ عليا وآمالاً وطموحاتٍ عظمى.0