مع اقتراب فصل الصيف، تعود مشكلة المياه إلى الواجهة في معظم الدول العربية التي يعيش معظمها تحت خط الفقر مائياً، خصوصاً مع تصاعد الجفاف والتصحر وندرة المياه بأثر من تغيّرات المناخ. ويزيد تعقيد الصورة أن معظم الأنهار العربية الكبرى تأتي من دول مجاورة، ليست علاقاتها العربية على أفضل صورة من السلام والتعاون. هل يمكن لدولة بمفردها أن تقاوم تغيّرات المناخ وموجات الجفاف وندرة المياه، سواء كانت دولة منبع أو مصباً، أم أن السياسة تربك الجميع، وربما بما لا يتلاءم مع حقائق العلم والمعرفة؟ هل يمكن أن تضع دول المنطقة حلولاً محلية لمشكلات المياه، عبر نظرة إقليمية بعيدة المدى؟ ولماذا لا يوجد كيان مؤسسي للمياه يجمع دول المنطقة حتى الآن، وهل من المستطاع إعادة النظر في مياه الشرق الأوسط، قبل أن تدهم «حروب المياه» مستقبلها غير البعيد؟ تفكير هندي متأنٍ سيطرت هذه الأسئلة على تقرير «السلام الأزرق» Blue Peace، الذي أصدرته مجموعة بحث من علماء الهند، تحمل اسم «استراتيجيك فور سايت غروب» Strategic Foresight Group. تهتم المجموعة بملف المياه والسلام والتعاون الدولي وفض المنازعات والتنمية المستمّرة، وتموّلها سويسرا والسويد. وتتبنى فكرة «السلام الأزرق» شخصيات مؤثّرة يتقدّمها الأمير الحسن بن طلال، وتضم يشار ياكيش وزير الخارجية التركي السابق، الدكتور محمد شطح وزير المال اللبناني السابق، الدكتور بختيار أمين الوزير السابق لحقوق الإنسان في العراق، وميسون الزغبي الخبيرة السابقة في وزارة المياه الأردنية، وشابان ديشلي، المستشار الاقتصادي لرئاسة الوزراء التركيّة. ونظّمت المجموعة الهندية مؤتمراً دولياً في إسطنبول أخيراً، بحث في «سلام المياه» في الشرق الأوسط، ونتائج تقرير «السلام الأزرق»، والمياه العابرة للحدود. واستضافت المؤتمر مجلة «تيركِش ريفيو» التركية، بدعم من «الوكالة السويدية للتعاون الإنمائي» و»الوكالة السويسرية للتنمية والتعاون» وجامعة «باهشسيهير» التركيّة. وشارك في المؤتمر ما يزيد على 65 سياسيّاً وإعلاميّاً وخبيراً، من تركيا ولبنان والأردن والعراق وسورية ومصر واليمن والإمارات والسعودية والبحرين وإنكلترا والأراضي الفلسطينية المحتلة واللجنة العليا لتقرير «السلام الأزرق». وساد شبه اتفاق على ضرورة أن تتحوّل المياه من سبب للصراع إلى حافز للتعاون، إذا توافرت إرادة سياسيّة كافية. ولوحِظ أن أوضاع المياه تتدهور باستمرار وبتسارع، ما يؤثّر في التنمية. ودعا كريم بلشي رئيس تحرير «تيركِش ريفيو» إلى ثقافة مائية جديدة في المنطقة تُركّز على أهمية التعاون بين الشعوب والدول في حلّ معضلة المياه. وأكدت أنيتا بالو، ممثلة وزارة الشؤون الخارجية السويدية، التزام بلادها دعم جهود التنمية المستدامة والتعاون في إدارة موارد المياه. وشدّد اللورد إلدرديك عضو مجلس اللوردات البريطاني على ضرورة التعاون الإقليمي الشامل بين دول المنطقة. ودعا الخبير الهندي سنديب ويسليكار، رئيس مجموعة «استراتيجيك فور سايت»، دول المنطقة إلى صوغ آلية مؤسسية للتعاون في مجال المياه، واحترام حقوق المياه والبنى التحتية المتصلة بها، خصوصاً في فترات الصراعات وتغيّر نُظُم الحُكم. وأشار ويسليكار إلى وجود لجان دولية للتعاون حول المياه، داعياً إلى الاقتداء بها في منطقة الشرق الأوسط. ودعا أيضاً إلى الالتفات إلى الطاقات الجديدة والمتجددة والتكنولوجيات الجديدة. وشاركت في المؤتمر الأميرة سميّة بنت الحسن بن طلال، بكلمة ألقتها نيابة عن أبيها. ونبّهت إلى قضية ندرة المياه في المنطقة وخطورتها. وأعلنت أن الأردن يستضيف في آب (أغسطس) المقبل ورشة عمل المياه وطُرُق تفعيل تقرير «السلام الأزرق». صيف حار... شتاء قاس ما الذي تضمّنه تقرير «السلام الأزرق» كي ينال هذا الاهتمام الواسع؟ استُهِلّ التقرير بإثبات وقائع صلبة عن تردي أوضاع أنهار المنطقة واستنزافها بشكل غير مسبوق، منها أنهار الأردن وبردى ودجلة والفرات والليطاني والعاصي واليرموك، إضافة إلى بحيرة طبريا والبحر الميت. وأوضح أن الأمر عينه يطاول طبقة المياه الجوفية في المنطقة. ونبّه إلى أن تغيّرات المناخ تزيد خطورة أوضاع المياه في الشرق الأوسط. وذكّر بأن حرارة الصيف سترتفع بقرابة 3.7 درجة مئوية، والشتاء بقرابة 3.1 درجة مئوية، خلال العقود القليلة المقبلة، ما يؤدي إلى زيادة سرعة التبخّر وتغيّر أنماط هطول الأمطار. وتوقّع التقرير أن يؤثر التصحّر في سورية وتركيا والعراق والأردن إذ تواجه 60 في المئة من أراضي سورية خطر التصحّر، ويتهدّد حوض قونيه في تركيا خطر التصحر كليّاً بحلول 2030. وتعاني أراضي العراق خطر التصحّر بمعدل 0.5 في المئة سنوياً. وخلص التقرير إلى توصيات شملت ضرورة إنشاء مجلس تعاون لموارد المياه بين تركيا وسورية ولبنان والعراق والأردن، وصوغ آلية سياسية لوضع معايير مشتركة لقياس تدفّق المياه ونوعيتها، ووضع أهداف للإدارة المستدامة للموارد المائية، والمشاركة في استراتيجيات إقليمية لمكافحة التغير المناخي والجفاف. ودعا إلى بناء الثقة بين سلطات المياه في إسرائيل والسلطة الفلسطينية، للاتّفاق على أرقام الوضع الحقيقي لموارد المياه العذبة. وحثّ التقرير أيضاً على وضع نموذج إقليمي عن التغيّر المناخي بين عاميّ 2010 و2100، بناء على حاجات بلدان المنطقة، مع مراعاة الفوارق الطبيعية بينها. وشدّد التقرير على ضرورة الإدارة المتكاملة للمياه، وزيادة كفاءة الاستخدام والتخزين والتوزيع، ومعالجة مشكلات توزيع المياه داخلياً، والإيفاء بحاجات المواطنين بوصفه مقدّمة ضرورية لنجاح التعاون الإقليمي. الدانوب مثالاً واستُعرِضت تجارب عن إدارة الأنهار الكبرى، منها تجربة اللجنة الدولية لحماية نهر الدانوب التي عرضها فيليب ويلر المدير التنفيذي للجنة. وأوضح ويلر أن الدول المتشاطئة على الدانوب تتعاون بشكل كامل لحماية النهر، عبر التركيز على 4 مجالات رئيسة هي: التكيّف مع تغيّرات المناخ، وطاقة المياه، والزراعة، والنقل النهري. ولفت إلى أن تجربة نهر الدانوب تتميّز بالحرص على مشاركة الجمعيات الأهلية ورجال الأعمال في مشاريع إدارة النهر إذ جرى تأسيس «جمعية الأعمال الصديقة للدانوب» لنشر أفكار الإدارة البيئية المستدامة، وإنشاء مشاريع تساعد الدول على استثمار النهر وموارده وحوضه، بأفضل الطرق. ولفت ويلر إلى أن تجربة نهر الدانوب تضمّنت الاهتمام الكبير بالتوعية الجماهيرية، على غرار تنظيم نشاطات شعبية واسعة في «يوم نهر الدانوب» الموافق 29 حزيران سنويّاً. وفي السياق عينه، قدّم الدكتور مانفريد سبريفكو، الرئيس السابق للجنة مياه الراين، عرضاً للجهود التي بُذِلت منذ عقد الستينات من القرن الماضي لحماية نهر الراين من التلوث وإدارة مياهه. وذكّر بأنه في العام 1963، أنشئت «اللجنة الدولية لحماية نهر الراين» التي اهتمّت بما يتعلق بمياه النهر وبيئته الطبيعية وموارد حوضه وفروعه. واستعاد أيضاً تأسيس لجنة متخصّصة لمياه الراين في العام 1970. ولاحظ سبريفكو أن تجربة مياه الراين تميّزت بالاهتمام الشديد بالتشبيك مع جهات متنوّعة ومؤسسات علمية مختلفة. وأشار إلى وجود سكريتارية تنفيذية وأخرى علمية، إضافة إلى مجموعة عمل دولية علمية، وهيئات تنسيق مع مؤسسات حكومية وجامعات ومعاهد بحوث. ولخّص سبريفكو تجربة الراين في ترسيمات أبرزها ضرورة إدماج المستفيدين في اتخاذ القرارات ونشر الوعي الجماهيري، وضرورة توافر الإرادة السياسية الكاملة للتعاون بين الدول المتشاطئة على النهر، والتعاون عبر مفهوم الإدارة المتكاملة لموارد النهر وحوضه كلها. وأشار إلى عدد من الاتفاقيات التي ترعى عمل لجان حماية النهر، منها «اتفاقية بِرن» (1972) واتفاقية حماية نهر الراين (1999)، و»إطار العمل الأوروبي عن المياه»، و»إطار العمل الأوروبي لإدارة الفيضان». واختتم سبريفكو مداخلته بالحديث عن نموذج إقليمي لقياس التلوث في نهر الراين، اسمه «راين آلارم موديل» Rhine Alarm Model، وهو يقيس أيضاً تأثير التغيرات المناخية في النهر. من «بحر ميّت» إلى... بحيرة متلاشية أورد تقرير «السلام الأزرق» أن تدفّقات الأنهار في تركيا وسورية ولبنان والعراق والأردن، استُنزِفَت بنسبة لامست ال95 في المئة بين عاميّ 1960 و2010 إذ انخفض تدفّق نهر اليرموك (الأردن) من 600 مليون متر مكعب إلى قرابة 250 مليون متر مكعب سنوياً. وانخفض تدفّق نهر الأردن من 1300 مليون متر مكعب إلى 100 مليون متر مكعب سنوّياً. وانخفض تدفّق نهر الفرات (العراق) من 27 بليون متر مكعب إلى 9 بلايين متر مكعب سنوياً. وتقلّصت منطقة الأهوار في العراق بنسبة 90 في المئة. وكذلك انخفض منسوب المياه في البحر الميت من 390 متراً تحت مستوى سطح البحر في ستينات القرن العشرين إلى 420 متراً تحت مستوى سطح البحر حالياً، مع توقّع انخفاضه إلى450 متراً تحت مستوى سطح البحر بحلول 2040. وتقلّصت المساحة السطحيّة للمياه فيه من 950 كيلومتراً مربّعاً إلى 637 كيلومتراً مُربّعاً، ما يرشّحه للتحوّل بحيرة خلال خمسين عاماً، ثم الاختفاء في نهاية المطاف. ووصلت بحيرة طبرية إلى الخط الأحمر وهو 212 متراً تحت مستوى سطح البحر، في بعض السنوات الماضية. وأبدى التقرير اهتماماً بموارد المياه العذبة المتجدّدة في الطبقة الجوفية الجبلية التي تتقاسمها إسرائيل والأراضي الفلسطينية. وأشار إلى انخفاضها بقرابة 7 في المئة بين عامي 1993 و2010. وشدّد التقرير على أهميّة تنقيح الحسابات المائيّة التي تستخدمها معظم المنظمات الدولية، لأنها تستند إلى تقديرات من فترة التسعينات في القرن الماضي، وهو زمن توقيع اتفاقيات أوسلو. واعتبر أنها باتت غير واقعية الآن، مع ملاحظة أن أزمة الثقة بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي تجعل كل طرف غير واثق بالأرقام التي يوردها الطرف الآخر.