عرفتُ بيار صادق قبل أن أعرفه. عرفته من خلال ريشته التي رافقت تشكّل وعينا ويفاعة أحلامنا، وإن لم نكن دوماً على الضفة ذاتها، فيما نهر المآسي يتوالى على لبنان وفيه، ويتحوّل أحياناً كثيرة قانياً بلون الدماء الغزيرة التي سالت في وطن الأرز، ولا يزال ثمة مَن يرغب بسيلانها من جديد غير مستفيد من التجارب المريرة التي كان الفنان الراحل يعرف كيف يجسدها بريشة ساخرة لاذعة لا توفر زعيماً ولا سياسياً ولا حدثاً أو حادثة. لاحقاً عرفْتُه إنساناً بعدما عرفته فناناً. عملتُ حيث كان يعمل، في جريدة «النهار»، وعملَ حيث كنتُ أعمل، في تلفزيون «المستقبل»، وتسنت لي محاورته في برنامجي «خليك بالبيت» و «ست الحبايب»، فكانت فرصة للتجوال برفقته في أروقة حياته ومعرفة كيفية تبلور تجربته وتحوّل ريشته واحدة من أكثر التواقيع الكاريكاتورية شهرةً، لا في لبنان وحده بل في أرجاء الوطن العربي كافة، وإن كانت الخصوصية اللبنانية لم تفارقه لحظة، سيما مع ابتكاره تلك الشخصية اللبنانية المميزة بزيها التقليدي، الساخرة من نفسها ومن الطبقة السياسية في آن واحد. آخر لقاءاتي الشخصية معه كانت في مدينة بشري في جبل لبنان الشمالي، كانت سهرة كأس وشعر وموسيقى، وكان بيار صادق مكرَّماً تلك الليلة الساحرة، تحدث بعفويته المعهودة ولغته اللاذعة، وتحدثنا نحن (المشاركون) عنه وعن ريشته التي ستبقى حاضرةً بيننا إلى أيام آتية طويلة، لأن واقع الحال الذي رسمه وسخر منه وعليه، كرّر ويُكرّر نفسه على شكل مهازل متواصلة تحكم الحياة السياسية اللبنانية المزدادة تدهوراً وانحطاطاً بفعل الطبقة نفسها التي لطالما سخر منها صادق ولَسَعها بريشته المسنونة جيداً. الخلاف في الرأي لم يكن يُفسد للود قضية مع بيار صادق، فدماثة الرجل كانت أرقى من اختلاف وجهات النظر، وابتسامته الخَفِرَة تسبق سلامه وكلامه، فيما مرارته من واقع الحال حاضرة في كل كلمة وكل حرف، خصوصاً أنه عرف لبنان في أزمنة متعددة، وعايش تبدلاته وتحوّلاته، مثلما عاش حروبه وسلامه الهش الناقص. ولئن كان لي قراءة في شخصية الرجل من خلال معرفتي به ولقاءاتي الكثيرة معه، فإن تلك القراءة أشبه بقراءة تاريخ لبنان الحديث نفسه، إذ إنه كان شاهداً حياً نضراً على كل تلك التبدلات والتحوّلات، ولعله -كما فهمْتُه- كان في حنين دائم إلى لبنان ما قبل الحرب، يومَ كانت صحافته تهزّ حكومات المنطقة بافتتاحية أو كاريكاتور. يُسجَّل لبيار صادق أنه أول مَن نقل الرسم الكاريكاتوري من حالته الجامدة في الصحافة الورقية إلى حالته المتحركة في التلفزيون، فنجح في جذب متابعيه إلى الشاشة الصغيرة، حتى بات البعض ينتظر نهاية نشرة الأخبار لمشاهدة ما الذي سيرسمه ومعرفة مَن الذي سيطاوله بالنقد والسخرية، فكان للشاشة «صفحتها» الأخيرة، تماماً كما الجريدة الحاملة توقيعه المميز. لعل المأساة الدفينة التي عاشها بيار صادق والحسرة العميقة التي اختزنها في سنواته الأخيرة تكمن في عدم الوفاء الذي قوبل به من مؤسسات عمل معها سنوات طوالاً وأعطاها زهوة عمره وزهرة شبابه وعُصارة ريشته، التي مثلت على الدوام علامة فارقة أنى حلّت أو ارتحلت، ففي كل حديث لنا، أكان عابراً أم معمّقاً، كان كلامه ومحيّاه ينضحان بالأسى من النكران الذي واجهه. صادق الساخر اللاذع اللاسع في ريشته وقلمه، كان في شخصيته الكثيرُ من الخفر، إلى حدّ كانت وجنتاه تحمرّان لطرفة أو لخبرية، ولعل هذا الخفر أكثر ما تجلى في مرضه الذي عاشه بصمت قارب حدود السرّ، حيث لم يعلم أصدقاؤه ومحبوه بمرضه إلا في أسابيعه الأخيرة، أو حتى بعد رحيله، رحيلٌ سوف يترك فراغاً لا في دنيا الرسم الكاريكاتوري فحسب، بل في لبنان كما عرفناه في ريشته، وضحكنا معه ومنه وعليه وعلى أنفسنا من شرّ البلية.