في ذلك الحين، لم تكن النازية ولدت بعد، في ألمانيا، على يدي هتلر، لتسحق البورجوازية الكبيرة وتحول الطبقة العاملة بأسرها والبورجوازية الصغيرة، الى مقاتلين فاشيين يدافعون عنها ويفرضون زعيمها هتلر سيداً لألمانيا ومشعلاً لحريق الحرب العالمية الثانية. في ذلك الحين كانت ألمانيا - والعالم كله - يعيشان كارثة من النوع نفسه، ولكن «المذنب» كان هذه المرة، رأس المال الكبير وتضارب المصالح بين الدول الإمبريالية، وهذان كانت علامتهما، في بدايات القرن العشرين، البورجوازية الكبرى. ومن هنا كانت حراب التقدميين ولا سيما الشيوعيون منهم موجهة الى تلك البورجوازية المعتبرة من جانبهم، سبب الكوارث، في تحالفها مع الطبقة السياسية، مع العسكريتاريا، ومع رجال الدين. ومن هنا، حين أراد فنان ألماني، من طينة جورج غروش، ان يعبر عن مواقفه السياسية وعن مكنونات تفكيره في ذلك الحين، وفي وقت بدأت الهزيمة تحل في أفق الحياة الألمانية خلال العامين الأخيرين من الحرب العالمية الأولى، رسم مجموعة من لوحات استفاض فيها، خطوطاً وألواناً، ومواضيع، في الحديث عن ذلك الثالوث. عن الموت الذي يتسبب فيه ذلك الثالوث. عن دمار المدن والإنسان، وعن تفرد الثالوث المتحالف، ضد الطبقة العاملة، باتخاذ القرار، انطلاقاً من مصالح ذاتية، لا من مصالح الوطن. وإذا كان جورج غروش عبّر عن هذا في عدد كبير من لوحاته، فإن ثمة في هذا المجال لوحات - علامات لا تنسى، حتى وإن كان بعضها فُقد (الى الأبد؟) بحيث لا يبقى منه سوى صورة، أو ذكريات عنه، أو مجرد ذكر له في سياق الحديث عن أعمال أخرى أو أفكار أخرى. ولعل حكاية لوحة «ألمانيا... حكاية شتاء» تبدو الأكثر فصاحة هنا، في هذا السياق... فمن هذه اللوحة بقيت صورة ملونة لها، إنما من دون ان يعرف أحد كيف بقيت هذه الصورة. وما الذي كان عليه مصير اللوحة. بل حتى ما هي مقاييسها، وإن كان من المنطقي القول انها تكاد تكون جدارية طالما انها تمثل مشهداً عاماً، ورُسمت في مرحلة كان غروش يكثر من رسوم لوحات من هذا النوع، يُراوح ارتفاعها بين 60 و120 سنتم وعرضها بين 40 و80 سنتم. رسم غروش «ألمانيا... حكاية شتاء» بين عامي 1917 و1919، اي الأعوام التي كانت مفصلية في تاريخ ألمانيا الحديث، بادئاً برسمها فور عودته من الجبهة التي انخرط فيها جندياً، منجزاً إياها عشية مقتل روزا لوكسبورغ وكارل لبكنخت (زعيمي الحزب الشيوعي الألماني «سبارتاكوس» على يد البوليس الألماني في فايمار واللذين إثر قبض الشرطة عليهما رُميا في النهر فقتلا. وهو موضوع سيصوره غروش كثيراً، ويتأثر به أكثر). والذي تمكن إضافته هنا هو ان إنجاز غروش لهذه اللوحة جاء متزامناً مع وقوفه الى جانب تيار الدادائية الذي كان بدأ يفرض حضوره في ذلك الحين بمواقفه الراديكالية من الفن والسياسة والمجتمع، حتى وإن كان في إمكاننا ان نقول ان غروش، وفي هذه اللوحة بالذات، كما في ما سبقها ولحقها، قد يبدو متأثراً، سياسياً واجتماعياً بمواقف الدادائية، لكنه في المقابل، يبقى من الناحية الفنية وفي اشتغاله على لغته الخاصة، اميناً لنهجه الذي كان بدأه منذ زمن وسيظل يواصله حتى النهاية: النهج الذي يجعل من اللوحة الزيتية الملونة، عملاً يتراوح بين الكاريكاتور والكولاج الحديثين (اللذين كان رفيقه وصديقه جون هارتفيلد ملكهما المتوج في ألمانيا ذلك الحين) من ناحية، ومن ناحية أخرى، بين أساليب هيرونيموس بوش وغيره، من رسامي لوحات الحشر والكوارث الكونية في عصر النهضة. ومع هذا كله، حين يدور الحديث على لوحة «ألمانيا... حكاية شتاء»، يقال عادة انها كانت احد نماذج الفن النقدي السياسي والاجتماعي في القرن العشرين. ولعل في إمكاننا هنا ان نضيف في صدد الحديث عن هذه اللوحة انها تكاد تكون الرحم الذي منه ولدت غالبية لوحات غروش الاجتماعية - السياسية التالية، ولا سيما رسوم كتابه الفني الأشهر «ذلكم هو الإنسان»، علماً بأن غروش، حين شرع في رسم «ألمانيا... حكاية شتاء كان بالكاد تجاوز الخامسة والعشرين من عمره. الذين يعرفون الأدب الألماني، يعرفون طبعاً ان غروش استعار عنوان لوحته - ولكن ليس موضوعها طبعاً - من نص الشاعر الألماني الكبير هاينرش هايني، الذي نُشر عام 1844، للمرة الأولى لينظر إليه على انه واحد من أكثر النصوص الشعرية قسوة في حديثه عن ألمانيا وعن أوضاعها الاجتماعية عشية ثورة 1848. ولعل ميدان القسوة الرئيسي في النص يتجلى في السخرية الحادة التي تحدث بها عن تلك الأوضاع. ومن هنا يبدو واضحاً ان ما كان يحاوله غروش في اللوحة إنما كان إيجاد معادل بصري (في الرسم) ومحاضر (أوائل القرن العشرين) لما جاء به هايني، في اللغة قبل ذلك بنحو ثلثي قرن... وفي يقيننا انه نجح في ذلك، من ناحية لأن اللوحة اشتهرت بسرعة، وقُلّدت كثيراً من جانب فنانين كثر، ومن ناحية ثانية، لأن غروش نفسه، عاد واستخدم الأسلوب والموضوع نفسيهما في لوحات تالية عدة له. فما الذي يرينا إياه الفنان في هذه اللوحة؟ ببساطة، يرينا الفوضى الضاربة في المدينة (في ألمانيا كلها... في مدن ألمانيا كلها وإن كان المرجح ان هذه المدينة هي برلين نفسها). ففي الخلفية يختلط كل شيء بكل شيء في عالم كابوسي يضعنا مباشرة امام ما يشبه جحيم هيرونيموس بوش. انها المدينة الكبيرة وقد سقطت في حمأة الجنون والفوضى. لكن هذين، إذ يصورهما لنا غروش، يصوّر في الوقت نفسه ما يوحي - مباشرة - بأنه السبب في ما يحدث: إنه، في شكل أساس، البورجوازي الكبير، الذي يشغل وطاولته العامرة، مركز الوسط في اللوحة. إنه جالس يأكل ويشرب، بعد ان فرغ كما يبدو من قراءة صحيفته. غير انه ليس هادئاً كل الهدوء الذي قد يكون من حقه. نظرته المندهشة تجاه ما يحدث من حوله - إنما من دون رعب حقيقي - نقول هذا، حتى وإن كان ثمة ما يوحي بأن إمساكه بالشوكة والسكين بين يديه، إنما هو استعداد لاستخدامهما للدفاع عن نفسه إذا اقتضى الأمر، أكثر مما هو لمواصلة تناول طعامه. ولكن هل تراه، حقاً، في حاجة الى الدفاع عن نفسه؟ إذا كانت الفوضى - المهدِّدة كما يبدو هنا - تشغل خلفية اللوحة وتبرر ما تفترضه من موقف لهذا البورجوازي الكبير، فإن ثمة في الثلث الأسفل من اللوحة، وجوداً لذلك الثالوث الذي اعتاد ان يؤمن الحماية لهذا البورجوازي «مصاص دم الشعب والعمال» بحسب الأدبيات الشيوعية لتلك المرحلة: هناك الأستاذ الجامعي - الذي يبدو أشبه ببيروقراطية الدولة والإدارة، وهناك الضابط الكبير (رمز العسكريتاريا)، وهناك اخيراً، رجل الدين. ان كلاً من هؤلاء الثلاثة يبدو في اللوحة مديراً ظهره للآخر، والثلاثة يديرون ظهورهم الى البورجوازي الذي يحمونه عادة ويعيشون بفضله متقاسمين معه الغنائم. ولكن هل معنى هذا انهم يتخلون عنه؟ لو كان الأمر كذلك، لما كان - طبعاً - من شأن الرسام، أن يضع صورته (بروفيل اسود) جانبية في الزاوية اليمنى السفلى للوحة. وعلى رغم سواد هذا البروفيل، من الواضح ان الوجه يعبّر عن غضب عارم. إذاً، الفنان الذي هو شاهد على هذا كله، يضع نفسه في اللوحة، في ما يشبه التعبير عن مضمونها، وكأنه يحاول ان يوقظ متفرج اللوحة، على واقع يُغضب... ويدفعه الى التحرك. هذا هو، بالأحرى، المعنى الذي شاءه جورج غروش (1893 - 1959) لهذه اللوحة التي لا يعرف احد اين هي الآن. لكنها، كما أسلفنا، لم تكن الوحيدة التي حملت هذا المعنى بين اعمال هذا الفنان الذي ظل يرسم ويناضل، حتى اضطر اخيراً الى مبارحة ألمانيا عام 1933، مع وصول النازيين الى الحكم، ليقيم منذ ذلك الحين في الولاياتالمتحدة، عائداً الى أوروبا بين الحين والآخر، حتى قرر عام 1958 ان يعود نهائياً الى ألمانيا، فعاد نهائياً يوم 28 أيار (مايو) من العام التالي، ليُعثر عليه ميتاً في مدخل البناية التي يقيم فيها، بعد ذلك بتسعة أيام. [email protected]