الثورات التي شهدتها البلدان العربية لا تزال تثير اجتهادات وتأويلات مختلفة ومتباينة، إنْ لجهة العوامل الفاعلة في انبعاثها أو لجهة أهدافها الحقيقية ومآلاتها المستقبلية ودروسها الكبرى، ما يجعلها قابلة لقراءات متعددة ومتناقضة. في هذا السياق، يقرأ جلبير الأشقر في كتابه «الشعب يريد - بحث جذري في الانتفاضة العربية» (دار الساقي - 2013)، الانتفاضات العربية من منظور ماركسي انطلاقاً من مقدمة «نقد الاقتصاد السياسي»، حيث خلص ماركس إلى انه «عند مرحلة معينة من تطورها، تدخل قوى المجتمع الإنتاجية في تناقض مع علاقات الإنتاج القائمة التي تتحول الى قيود تعيق هذه القوى، وعندئذ تبدأ حقبة من الثورة الاجتماعية». فهل نشهد في المنطقة العربية منذ عام 2011 حقبة من الثورة الاجتماعية ناتجة عن انسداد في تطور القوى المنتجة؟ في رأي المؤلف، أن أزمة المنطقة العربية لا يمكن اعتبارها تعبيراً عن انسداد عام في نمط الإنتاج، بل تنبغي مقارنة الفضاء العربي بالمجموعة الأفرو-آسيوية التي تنتمي اليها المنطقة العربية. والحاصل أن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (مينا) -وفق التسمية الإنكليزية المختصرة MENA- تشهد أزمة التنمية الأشد حدة، حيث اتسمت بين عامي 1970 و 1990 بركود نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، وقد قل أداء الدول العربية بين عامي 1980 و 2010 عن نظيره في شرق آسيا، رغم أن المنطقة العربية أغنى بكثير. ويمكن تلخيص الوضع الاجتماعي الذي يواجه سكان الفضاء العربي بكلمات ثلاث: الفقر، اللامساواة، اللااستقرار. ووفقاً لتقرير الأممالمتحدة الإنمائي، فإن النسبة المئوية للذين يعيشون بأقل من دولارين يومياً تبقى مرتفعة، وقد بلغت بين عامي 2000 و 2006: 23.8 في تونس، 30.1 في سورية، 39.6 في المغرب، 40.9 في مصر، و59.9 في اليمن. تتضافر هذه الأوضاع مع معدلات بطالة مرتفعة لتولد ديناميات التهميش المنذرة بالسوء، والتي تتجلى في تعاظم نسبة سكان أحزمة الفقر المحيطة بالمراكز الحضرية العربية وقد بلغت 42 في المئة عام 2001. وتشير بيانات البنك الدولي إلى أن العشرة في المئة الأغنى في البلدان العربية ينفقون في المتوسط 10.4 أضعاف نفقات العشرة في المئة الأفقر. وهكذا، فإن المنطقة العربية تشهد معدلات مرتفعة جداً للفقر واللامساواة، إضافة إلى معدلات بطالة مرتفعة بين خريجي التعليم العالي: 21.6 في المئة في تونس عام 2008، 20.3 في الجزائر و17.7 في المغرب عام 2010، مع ما يترتب على ذلك من هجرة كفاءات بلغت نسبها المئوية: 38.6 من لبنان، 17 من المغرب، 12.5 من تونس، 11.1 من العراق. بناء على هذه المعطيات، فإن المنطقة العربية تعاني من معدلات نمو اقتصادي أدنى منها في بقية مناطق العالم النامي، بل إن معدل نمو نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في المنطقة قد شهد اتجاهاً هابطاً واضحاً. إضافة إلى المأزق التنموي الذي يشكل حوافز خلفية للانتفاضات العربية، يشدد المؤلف على دور النفط الذي حول البلدان العربية محك منافسة بين القوى العظمى، فالنفط في رأيه هو السبب الكامن وراء شراهة خاصة لدى القوى الغربية دفعتها لتعزيز الاستبداد في منطقة مينا، بالتنافس مع القوى ذات النظم السياسية غير الديموقراطية كالاتحاد السوفياتي امس والصين اليوم. وبصدد القوى الفاعلة في الثورات العربية ومعطيات العملية الثورية، رأى المؤلف أن شروط الحالة الثورية كما حددها لينين تجمعت بشكل جلي وبدرجات متفاوتة في اغلب البلدان العربية، فقد اشتد بؤس الطبقات المضطهدة أكثر من المألوف، وبات مستحيلاً على الطبقات السائدة الاحتفاظ بسيادتها من دون أي تغيير، وتعاظم نشاط الجماهير إلى حد القيام بنشاط تاريخي مستقل، حيث اندلع الغضب الشعبي في البلدان العربية على غرار انتفاضات الجوع التي شهدتها مصر والمغرب وتونس والأردن والجزائر. أما الأمر الذي كان بالإمكان توقعه، بل كان توقعه شائعاً وعاماً منذ سبعينات القرن الماضي، هو أن الحركة الأصولية ستكون أولى القوى المستفيدة من انفجار اجتماعي في المنطقة. ولا بد كذلك من تأكيد دور التكنولوجيات الجديدة للمعلومات والاتصالات في الانتفاضات العربية، حيث جرى استخدام مجمل وسائل الإعلام الاجتماعية (فايسبوك ويوتيوب وتويتر) في إقامة الصلات والاتصالات والتنسيق وبث المعلومات، لا سيما أن النسبة المئوية لمستخدمي الإنترنت عام 2010 بلغت: 27.2 في الأردن، 55 في البحرين، 36.8 في تونس، 30.2 في مصر، 49 في المغرب، و20.7 في سورية. بإجراء كشوفات حساب للانتفاضات العربية، خلص المؤلف إلى أن الاستياء الشعبي في مصر تمحور حول مطالب إعادة توزيع الثروات قبيل الثورة مباشرة، وإلى أن الاعتصامات والتظاهرات العمالية التي اجتاحت القاهرة والمحافظات تداخلت فيها المطالب الاجتماعية وتحسين الأحوال المعيشية بمطالب الإصلاح السياسي. وقد أطاحت الانتفاضة بجزء هام من المكون السياسي لنخبة السلطة فضلاً عن فصيل الرأسمالية الأوثق صلة بالأسرة الحاكمة، بيد أن الطبقة الرأسمالية المسؤولة عن الانفجار الاجتماعي نجت من الزلزال، أما القذافي فقد كان الأقرب إلى تجسيد مقولة ستالين «المجتمع هو أنا»، إذ لم يكتف بالاستملاك الفعلي للدولة والاقتصاد بأكمله، بل مارس سلطة اعتباطية ومطلقة، مستنداً إلى جهاز أمني متضخم يقوده أعضاء من حاشيته العائلية والقبلية، فضلاً عن وحدات المرتزقة، فحرس النظام يقوده ابن عم القذافي، وابنه خميس قائد الكتيبة 32، وابنه معتصم مستشار الأمن القومي، أما سيف الإسلام، فكان بمثابة رئيس الوزراء الفعلي من دون أن يشغل منصباً رسمياً. وهكذا، قام نظام من النهب المتمركز حول أبناء القذافي والجهاز الأمني، في مقابل بؤس الشعب، فرغم أن ليبيا هي أغنى بلد في شمال أفريقيا، يبلغ فيها معدل البطالة 30 في المئة ومعدل بطالة الشباب بين 40 و 50 في المئة، وهما أعلى نسبتين في شمال أفريقيا، فيما لا يزال 20 في المئة من الليبيين أميين، ولا يتوافر السكن اللائق لنصف هؤلاء، ولهذا لم يكن مفاجئاً البتة امتداد الموجة الثورية إلى ليبيا. في كشف حساب الانتفاضة السورية، تبين للمؤلف أن السلطة في سورية تستند إلى أقلية طائفية، وديكتاتورية عسكرية بعثية، فمن بين واحد وثلاثين من كبار القادة في القوات المسلحة، هناك تسعة عشر علوياً، وثمانية من قبيلة حافظ الأسد وأربعة من قبيلة زوجته، ومن بين الاثني عشر الآخرين سبعة هم من اقاربه. ومنذ عام 1992 بات الجنرالات العلويون يقودون ما لا يقل عن سبع فرق من فرق الجيش السوري التسع. أما الحرس الجمهوري، فقوة علوية خالصة تعاقب على قيادتها أبناء الأسد باسل ثم بشار ثم ماهر. وقد استطاع رؤوس التراتبية العسكرية والأمنية الإثراء إثراء فاحشاً وحققوا ثروات طائلة كشركاء إلزاميين لبورجوازية السوق، وذهب الجزء الأكبر من الإثراء الى العشيرة العائلية لآل الأسد وشركائهم، ما يبيّن كيف أن الأسرة الحاكمة أصبحت تضم أغنى رجال البلد، ألا وهو رامي مخلوف ابن شقيق زوجة حافظ الأسد، وتقدر ثروته الشخصية بستة بلايين دولار. في مقابل ذلك صارت الأرياف الضحية الرئيسية للبطالة المتصاعدة، التي وصل معدلها في صفوف الشباب إلى 24 في المئة، وأصبح 30 في المئة من السكان تحت خط الفقر، في ظل تراجع معدل النمو الإجمالي، الأمر الذي يفسر تطور الانتفاضة السورية من المحيط الريفي نحو المراكز المدينية، ومن أحزمة الفقر المحيطة بهذه المدن نحو وسطها. وخلص المؤلف، من خلال تحليله طبيعة النظام في سورية، إلى أن هذا النظام يستحيل إسقاطه بغير حرب أهليه، وأن وجود تنظيم القاعدة داخل الانتفاضة لا يجوز أن يشوه حقيقتها بوصفها حالة أصيلة لشعب يحمل السلاح. وتطرق كذلك إلى محاولات استيعاب الانتفاضات العربية، حيث ذهب البعض إلى حد اعتبار الربيع العربي «مجرد ثورة إعلامية تديرها الولاياتالمتحدة من غرفة في تل أبيب» على حد تعبير علي عبد الله صالح، ونظر إليه البعض كمؤامرة دبرتها الولاياتالمتحدة كي ترسخ هيمنتها على المنطقة وتخدم مصالح إسرائيل. والواقع أن الحكومات الغربية ارتبكت هي الأخرى جراء الانفجار في مرحلة أولى، في ظل أقصى درجات انعدام اليقين في ما يتعلق بمستقبل المنطقة، حتى أن ساركوزي عرض إزاء الانتفاضة التونسية، تقديم دعم قوات فرنسا القمعية لبن علي. ووضعت الثورة في مصر أوباما في مأزق كبير، قبل أن يعلن تأييده إصلاحات تلبي تطلعات الشعب المصري. وفي حالة الشعب البحريني، حثت واشنطن الملك على تشكيل لجنة تحقيق بشأن التجاوزات التي ارتكبتها قواته، وفي تونس، رحبت بوصول حركة النهضة الى السلطة، وفي ليبيا، تصرفت قوات دول الناتو كقوة ضاربة من بعد لمصلحة الثوار. يتساءل المؤلف أخيراً إذا كان الربيع العربي سيفضي إلى دكتاتوريات شمولية إسلامية تثير الندم على النظم الساقطة ليستنتج أنه بينما تسبب زلزال الانتفاضة العربية بالتأكيد في حدوث «تسونامي إسلامي»، وهو الأمر الذي كان يمكن توقعه، فإن التسونامي كان بالإجمال محدود الحجم والنطاق، فالتسونامي ظاهرة عابرة، وهو نادراً ما يبتلع اليابسة بشكل دائم. ومن الممكن جداً، مع مرور الوقت، أن نكتشف أن «التسونامي الإسلامي» كان نقطة الذروة في بزوغ الأصولية الإسلامية منذ سبعينات القرن العشرين، وكذلك نقطة انطلاق دورة سياسية جديدة في المنطقة العربية. * كاتب لبناني