هذا معرض ليس كبقية المعارض لما يثيره من رعب وهلع إبداعي. يعقد مقارنة تحليلية جمالية فريدة بين المساحات المتقابلة (في هواجس هذا الموضوع) ما بين الفن التشكيلي والأدب بأنواعه من شعر ورواية إلى مسرح وسينما. ويغطي من خلال مئتي لوحة ونصوص ادبية مختارة ما يقرب من قرنين، لذلك تبدو نماذجه إنتقائية كأنها تستجيب للعناصر النخبوية وأصالة البعد الثقافي حتى ليبدو أقرب إلى الفلسفة منه إلى العروض الإستهلاكية الموسمية، ويستمر في متحف أورسي - باريس حتى حزيران (يونيو). يستنير منظمو المعرض بكتاب شاع منذ صدوره عام 1930 للكاتب الأيطالي ماريو براز تحت عنوان «اللحم البشري، الموت الشيطان». هو كاتب ومؤرخ فن معروف بعلو اختصاصه، يجري تواصلاً في مؤلفه بين أنواع الفنون وصنوف الأدب منذ نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن العشرين، منقباً ببحث حثيث عن أصول خيال الرعب المبدع وبلوغ بشائره في السينما المعاصرة والفيديو كليب وسواهما. يحيل المعرض مثل الكتاب فكرياً هذه الحساسية المصائبية التي تختلط فيها شهوة الحياة بشهوة الموت إلى مصدر أحادي (رغم تحولاتها عبر القرون) وهو الأساطير اليونانيّة. نذكر «أسطورة سيزيف» رمز العذاب الأبدي الوجودي العبثي من خلال أبدية حمله للصخرة على الجبل ثم سقوطها من جديد إلى الوادي، نسمع في هذه التراجيديا عويل إلكترا ونواحٍ الخنساء. لكن الأسطورة التوأمية الأقرب إلى موضوعنا هي «أسطورة ميدوزا» رمز الغواية المغتصبة آلاف المرات في معبد أثينا، ذاقت خلالها أشد لواعج الألم والرعب المستديم، والمغتصب الشرير هنا هو بوسيدون الذي عاقبته أثينا بتحويل خصلات شعره إلى ثعابين، ثم تحجر بصره كلما نظر إلى الآخرين فأصبح شبه أعمى. تحولت شخصية بوسيدون مع الأيام ومنذ أدب القرن الثامن عشر إلى «الفامباير» مصاص الدماء (والى فرانكشتاين)، هي الكائنات الشريرة التي طردتها لعنة المدينة والمجتمع والأخلاق إلى دياجير القبور، يخرجون في الليل ليمتصّوا دم البشر، لمثل هذه الصورة إنعكاسات في علم النفس لدى فرويد عن مرض شاذ ومكبوت هو اشتهاء جثث الموتى، ونبش قبورهم في الليل، كما تسربت بصورة أو بأخرى إلى مساحات الظلمة الغامضة لدى بعض كبار الأدباء من شكسبير إلى غوتيه ومن هوغو إلى بودلير إضافة إلى دانتي وبايرون. تختلط صورة السحرة مع المسوخ الشيطانية لتُطرد بلعنتها بدورها إلى الآفاق المهجورة (نجد لها أصولاً أيضاً في الفلوكلور الجرماني). أصول هذا الرعب وجدت لها مهداً في بعض تيارات التصوير، بخاصة إبتداءً من ملك التصوير الأسباني فرانشيسكو غويا (1746 1828) في سلسلة محفوراته الطباعية المعروفة باسم «أهواء أو نزوات»، نعثر فيها على سحرة يطيرون ولعنات القبور والحروب وأهوالها، ورأس فرانكشتاين (في فيلم سينما من عام 1930) مأخوذ بملامحه الدقيقة من هذه المشاهد. هو التأثير المتوارث الذي نعثر عليه في كليب مايكل جاكسون، ويمثل رقصاً جماعياً هستيرياً لسكان القبور حول فتاة جميلة. انها المسوخ الشيطانية الخارجة بلغتها الغرائبية عن خريطة المجتمع والأخلاق والمواقع الحضرية (على صورة دراكولا المتأخرة). يعانق المعرض لوحة الفنان الفرنسي بوجيرو المعروفة والتي تمثل دانتي على مشارف بوابة ومقابر الجحيم حيث يجري الصراع بين مصاص دماء وشاب ضحية، يعض المسخ عنقه كذئب فيدميه (منجزة عام 1850). ولعل أشد المقاربات-المقارنة إثارة وحساسية هي اللعنة المضمرة في أزهار الشر لبودلير وأزهار الرسام أودلون رودون، وكذلك امتداد سحر الطبيعة الشيطانية من كتاب فرويد إلى السوريالية وعلى رأسها ماكس إرنست: مناظر مريبة مضمرة الشر الكابوسي أو الحلمي يغلف جمالها الظاهر سم الأفاعي والأرواح الشريرة. وكما نعثر على حساسية لعنة الموت في لوحات إدوار مونخ التي تمثل سريره مع والدته المتوفاة. ونجد أن أندريه بروتون يزاوج بين الكتابة والرسم في هذا المعنى المصائبي المقلق. كما يؤكد المعرض على لوحة بونار التي تمثل زوجته في الفراش وقد تقمصت مخالب قطة شرسة وشعر ميدوزا من جديد. لا شك في أن المعرض يحفل بما هو أرحب مما ذكرته هنا.