يظن بعضهم أن كلمة «الترويض» تختص بالحيوان لا بالإنسان. فكلمة «الترويض» أصلها الفعل راضَ، ويُقال: «راضَ المهر» أي ذلله وطوعه وعلمه السير. أما الفعل «روَّض» بتشديد الواو وفتحها، فمعناه بالغ في التطويع والتعليم. ويُقال: «روَّض المرء نفسه» أي عالج نفسه أو قوم سلوك نفسه كي ينسجم مع المطلوب. أما «تراوض الرجلان في البيع والشراء»، فمعناه أنهما تجاذبا الحديث حول الزيادة والنقصان في قيمة البيع والشراء كأن كل واحد من المتبايعين يروِّض صاحبه. ومن قبيل ذلك، يُقال «تراوض القوم في الأمر» أي تناظروا فيه، انطلاقاً من محاولة بعضهم أن يروِّض الآخر فيصل معه إلى ما يتم التوافق عليه. ويُقال: «ارتاضت القوافي الصعبة للشاعر» أي انساقت معه وانقادت له وأطاعته، ومن قبيل ذلك أن نقول: لقد روَّض أحمد شوقي في قصائده أصعب القوافي. أما أصل كلمة «الترويض» فهي من «رياضة المهر» و «الترويض» من «الرياضة» أي ترويض أو تحريك عضلات الجسم لتقويتها أو استبدال ما يعتريها من حالة سيئة، في سياق ما، بحالة أفضل. إذاً، ليس شرطاً أن يقتصر استخدام كلمة «الترويض» في السياق الحيواني، ذلك أن معناها في السياق العام هو تعديل أمر أو تقويمه إلى مستوى مطلوب أو مراد. فالترويض ليس في الأصل إهانة، وإنما هو أسلوب يستهدف تعديل سلوك أو تقويمه أو تغييره بغية ضبطه وتأمين بلوغه إلى المراد. ويتأتى ضبط السلوك- في سياق علم النفس مثلاً- إما بأسلوب العقاب أو الثواب. فالابن الشغِب (بكسر الغين) يحتاج إلى ترويض يغير من سلوكه إلى الحالة المرادة. والزوجة شديدة الغيرة أو تلك المتسلطة أو سليطة اللسان أو تلك العنيدة ذات الصوت العالي التي يصعب مراسها، إنما تحتاج إلى ترويض ينقلها مما هي فيه إلى ما يراد لها أن تكون عليه. والزوج المتسلط أو الغيور أو صاحب الألفاظ الفظة الخشنة العنيفة يحتاج هو الآخر إلى ترويض يُعينه على تغيير سلوكه وتعديله إلى الحد المطلوب الذي يؤمن حياة زوجية تنحسر فيها الخلافات إلى أقل حد مستطاع. أما «الترويض» فأنواع، ومنها: - الترويض النفسي: وهو أسلوب نفسي رائع وسلس وحديث. - الترويض العقلي والفكري: وهو تدريب العقل على التفكير وتشذيب الأفكار وتهذيبها وترتيبها ووضعها في سياقها. - الترويض الذاتي: وهو عملية نقدية تستهدف نقد المرء لذاته. - الترويض المتبادل: وهو أن المجتمعات أو التجمعات أو الشخصيات يروض بعضها بعضاً. والترويض الذي لم يبقَ اتصاله بالحيوان فقط، بل صار شيئاً مهماً للإنسان ولصيقاً به، انتقل أيضاً إلى حيز الأحزاب والتجمعات والدول والحكومات، حيث سمعنا أو قد نسمع أن دولة ما تقوم بعملية ترويض لدولة أخرى أو أن حكومة معينة تقوم بعملية ترويض لبعض الأحزاب أو التجمعات فيها. فالولاياتالمتحدة لا تتوقف عن محاولات ترويضها لكثير من الدول والأحزاب والنقابات والتجمعات والحكومات على المستوى المحلي والعالمي. ومن أمثلة ذلك ما تقدمه لبعض الدول أو الحكومات أو الأحزاب من مساعدات هي في الأصل عمليات ترويض تلبسها شكل المساعدات والمعونات. والترويض يأخذ أحياناً معنى التأديب، سواء بالنسبة إلى الولد الشغِب أو الزوج الغليط أو المرأة السليطة أو الدول والأحزاب والحكومات. فما دأبت الولاياتالمتحدة على القيام به تجاه مصر، على سبيل المثال، سابقاً وحالياً، هو عمليات ترويض تكتسي لباس المساعدات والمعونات، بل إن ما تقوم به في بعض الأحيان على مستوى العالم من تصريحات مؤيدة لفريق أو ناقدة لفريق آخر، إنما ينطلق بعضها- إن لم يكن معظمها- من رغبتها في تغيير العالم عبر هذا الترويض، ومن أمثلة ذلك ما تقوم به من محاولات ترويضية للإخوان المسلمين في مصر، ولحركة «حماس» في غزة، وللسلطة الفلسطينية في رام الله، وللحكم في العراق، وللمعارضة في سورية، وفي دول ما يسمى بالربيع العربي على نحو عام. فالحصار المفروض على قطاع غزة من إسرائيل والولاياتالمتحدة ومصر السابقة لم يكن قط إلا لوناً من ألوان الترويض الذي يستهدف الإخضاع أو التركيع من أجل التغيير إلى حالة تنسجم معها وتتحقق من خلال كل مكوناتها مصالح فارضي الحصار. وقبل هذا الحصار المفروض على قطاع غزة لتجويع أهلها وتركيعهم، كانت محاولات كثيرة لترويض منظمة التحرير الفلسطينية، بصفتها ائتلافاً وطنياً فلسطينياً جامعاً، وكان من بين تلك المحاولات، بل ومن أهمها، اعتقال أحمد سعدات الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ذلك أن مثل هذه الخطوة «ستقود»- كما قال جورج حبش في بيان أصدره في 17/1/2002- «إلى إجهاض الانتفاضة على نحو تدريجي». غير أن محاولات ترويض منظمة التحرير الفلسطينية كانت قد بدأت قبل ذلك، لا سيما أن من بين أهم محاولات الترويض التي جرت هي التواصل الذي تم مع منظمة التحرير الفلسطينية عبر السفير الأميركي في تونس، روبرت بلليترو، في أوائل التسعينات من القرن الماضي. وفي عصور سبقت، دأبت الدول الاستعمارية على تلميع حلفائها في البلاد التي تحتلها لإبرازهم كقادة عظماء يحركون العامة إلى مصالحهم ومصالح تلك الدول الاستعمارية من خلال عباراتهم النارية وفصاحتهم الثورية ومواقفهم العنترية. هذا التلميع الذي يستهدف الحليف إنما هو نوع من الترويض له، وتلك العبارات النارية والفصاحة والثورية والعنترية التي يستخدمها الحليف لدغدغة عواطف الناس وإلهاب مشاعرهم هي نوع من الترويض لهم أيضاً. وطبقاً للمواصفات الجديدة التي تضعها الولاياتالمتحدة للحكام والقادة والرؤساء والزعماء، فلا بديل عن أن يكونوا ضعفاء، مسلوبي الإرادة، أصحاب شعبية ضيقة لا جماهيرية واسعة، مع معارضة قوية وشرسة كي يكون الإسناد والتأييد والدعم الأميركي أكبر مقوم من مقومات وجودهم وأشرس ركيزة من ركائز بطشهم بشعوبهم، فيبقى في الحكم خالداً مخلداً من ظل أسيراً للرغبة الأميركية يأتمر بأمرها وينتهي بنواهيها.