رؤية إسرائيل لذاتها في العام ال65 لقيامها إشكالية كما كانت دائماً لأنها لا تزال تتم بلغة مزدوجة. فالحديث عن القوة والجبروت والرسوخ والإنجازات والفخر والاعتزاز يأتي مقروناً في العادة بحديث صريح أو مبطّن عن الخوف من الزوال وعن شرعية لم تكتمل. وبين هذا وذاك تبرز في هذه المناسبة وجهات نظر نقدية تماماً من موقع صهيوني أو ما بعد الصهيونية. وهذا ما يحصل في هذه المناسبة عادة. رواية البطل والضحية التي تخلط عمداً أو من غير عمد بين التاريخ اليهودي مقابل العالم وبينه مقابل العالم العربي والفلسطينيين تحديداً. احتفالات مزدوجة الخطاب، تبدأ بإحياء ذكرى المحرقة قبل أسبوع من إحياء «عيد استقلال» إسرائيل. قدم في خانة الضحية وقدم في خانة البطولة، صوت خارج من الرماد وصوت من تل أبيب، مدينة صاخبة لا تتوقف - كما يقولون هنا! صوتان يطغيان ويغطيان على أصوات أخرى من داخل المجتمع اليهودي تقوّض الرواية من أساسها أو تقوضها جزئياً بدءاً من 1967 حيث يكون الاحتلال نقطة البداية للحديث والنقد. كيف ترى إسرائيل ذاتها؟ سؤال تُجيب عنه إسرائيل الرسمية والنقدية كل عام من جديد. لكن، إذا غيّرنا وجهة السؤال ووجهناه إلى العرب والفلسطينيين فسيكون من المثير أن نتقصى الإجابة. لأن العرب مشغولون بربيعهم أو خريفهم أو الانقضاض الإسلاموي على حراكهم، نحصر حديثنا على رؤية الفلسطينيين لإسرائيل في «عيد استقلالها» وهو سؤال التاريخ أيضاً فيما اعتاد العرب والفلسطينيون بينهم الهرب من التاريخ. يبدو لي أن النُخب الفلسطينية السياسية، وبدرجة أقلّ الثقافية، غير قادرة دائماً على الإمساك بالتاريخ أو فكفكة أحماله. فقد تمرّ المناسبات الفاصلة فيه من دون أن نلمس حركة بحجمها أو قولاً بمفصليتها. وهذا جدّ صحيح بعد وفاة ثلاثة فلسطينيين اعتادوا أن يوقفوا التاريخ عند حده وهم محمود درويش وإميل حبيبي وإدوارد سعيد. ثلاثة مثقفين اعتادوا أن يُمسكوا الزمن في سيره ويعتلوا متنه حاضرين بقوة حيث أريد لهم ولشعبهم أن يُغيّبوا ويُغيّب. وما بقي لنا هو خطاب فلسطيني جار وحتى عابر إلى حدّ كبير، منسي في ظلال الخطاب الإسرائيلي أو في فنائه الخلفي. صحيح أن المسألة الفلسطينية تمكث الآن في مدار التعب والمراوحة في المكان - لكني لم أتخيّل أن الوضع بهذا السوء حتى رأيت ما رأيت هذه الأيام. مسألة كانت صوتاً مدوياً وصارت صدى أو حتى ترداد صدى ما غير واضح المعالم. ولا أعتقد أن الأمر صدفة أو هو بسبب غياب ثلاثة رجال، رجال تربعوا ردحاً غير قصير من الزمن في صدر الساحات وأعلى مراتب الكلام والفكر. بل هو محصّلة ارتطام الحلم بالواقع والعدل بالحقيقة والحق بالقوة والأمنية بالأرض. وهو محصّلة العجز عن الاعتراف والإقرار بما حصل. وما حصل أكثر من رمل البحار في المأساة الفلسطينية. هناك عجز فلسطيني جمعي عن الإقرار بأن المأمول من دولتين لشعبين قد خاب تماماً وأن تقاسم الأرض مبدأ تقادم وفقد صلاحيته. وهناك عجز عن الإفصاح عن الخيار الممكن الذي بقي. وما تبقّى ليس خياراً جافاً أو بُنية دولانية من نوع محدد. بل هو سلسلة من الاعترافات الفلسطينية بما يصعب الاعتراف به لأنه يشكّل خروجاً من الرواية التي رواها الفلسطيني لنفسه ولأنه قبول على نحو ما برواية الآخر. فإذا تحدثنا عن خيار الدولة الواحدة للشعبين بين النهر والبحر، يعني هذا أنها لن تكون دولة فلسطينية أو بسيادة فلسطينية. يعني هذا أن يقبل الشعب الفلسطيني مبدأ المصالحة التاريخية من خلال تقرير المصير داخل دولة مشتركة مع اليهود وليس ضمن دولة مستقلّة كما دأب المشروع الفلسطيني على الادعاء. وهذا يعني الاشتباك بالمسألة اليهودية على أرض فلسطين التاريخية وقبول حقيقة أن حلّها التاريخي سيكون على حساب فكرة الوطن الفلسطيني وفي مساحته وعلى أرضه. هذا يعني الخروج من إسار فكرة الفصل بين الشعبين كما صاغها قرار التقسيم في حينه والدخول إلى العيش المشترك في حيز مشترك. وهذا يعني الخروج من أنشوطة الدولة القومية الإقليمية التي تكرّس الجماعة القومية وتقدسها إلى حدّ الألوهية وتعتبرها مالكة الأرض وما عليها من موارد ومعالم. هذا يعني أن تُدار البلاد من النهر إلى البحر وتُسمى وتوصف بلغتين اثنتين على الأقلّ. هذا يعني قبول ما تغيّر وتحول في الطوبوغرافيا والديموغرافيا والجغرافيا بفعل المشروع الصهيوني والتجربة الإسرائيلية. هناك معانٍ أخرى كثيرة لما يعنيه خروج فلسطيني من الحلّ الجغرافي إلى الحلّ القِيَمي، ومن حدود دولة لم تقم إلى مضمون دولة ممكنة التشكّل. وهي معان سيكون على الطرف الإسرائيلي أن يُدركها تبادلياً مع الفلسطينيين. وهو طرف لا يزال يراهن على قوته وأقلّ على الوقت. لكنه هو الذي دفع الأمور دفعاً إلى هذه النقطة التي لم يعد يستطيع فيها أن يوقف حركة التاريخ السائرة قفزاً إلى مربّع الدولة الواحدة واستحالة الفصل بين الشعبين بعد الآن وبُطلان قرار التقسيم عملياً. وإذا حاول معاكسة حركة التاريخ هذه فبكلفة باهظة على مختلف المستويات لا يستطيع تحمّلها. إن تحرّر الفلسطينيين بكل المعاني لا يكون إلا بالتحرّر الذاتي من إسار مشاريع غير قابلة للتحقّق ومن الروايات المتقادمة للصراع والصهيونية والتجربة الإسرائيلية. التحرّر يبدأ بالنظر في عيني الحقيقة الراهنة وإدارة الوقت المتاح لا التوهّم بأن هناك بداية يُمكن أن تُستعاد. وكما قالت العرب لا يُمكن استرداد السهم الذي أطلق. وهو ما يُمكن أن يكون مدخلاً لتحرير القاهرين من نزعتهم إلى القهر. وهناك فارق قد يصير منهكاً بين روايتنا التاريخ وبين حركة التاريخ!