منذ أن طرحت التسوية كمنهج لحل للقضية الفلسطينية جرى تغييب قيم العدل والحرية والمساواة، كمرجعية أخلاقية تضمن رسوخ السلام المنتظر. وهو ما أفقد «عملية السلام» مقوماتها الضرورية، وجعلها بعين قطاعات واسعة من الشعب محض استسلام. من حيث المبدأ لا يمكن رفض إجراء تسوية بين متخاصمين، وإلا وجدنا أنفسنا في كل القضايا في حالة نفي مطلق، وهو ما يخالف القاعدة البسيطة للحياة البشرية التي تفترض أن ما يمكن أخذه بالرضا لا يحتاج لدفع ضريبة الدم من أجله. لكن القاعدة السالفة الذكر تفترض أن ما يؤخذ بالتراضي يساوي، وأقله يقارب، ما يؤخذ بالعنف، أما في حالتنا فالبون شاسع بين الاثنين، وافترضت جميع التسويات أن يقوم الطرف الفلسطيني بالتخلي عن جل حقوقه، إلى درجة المساس بمقومات وجوده ذاتها. على رغم بداهة هذا المنطق إلا أنه قد تم تغييبه. وبدلاً منه شاع خطاب يدعو الشعب الفلسطيني للقبول بما تضطر إسرائيل للتخلي عنه بفعل طبيعتها العنصرية، واستحالة استمرارها – ببنيتها وطبيعتها - في ظل وجود شعب غير يهودي في إطار ما تعتبره وطناً لها. أي أن على الفلسطينيين التكيف مع احتياجات إسرائيل للاستمرار، ومساعدتها على تحقيق حلمها المتناقض بأن تكون دولة يهودية وديموقراطية في آن، وإلا خسروا كل شيء. كان من الواضح أن معنى هذا الخطاب هو استكمال المشروع الصهيوني بأحد احتمالاته بعد أن أغلقت أمامه الاحتمالات الأخرى، ومنها التوسع، وبعد أن فقد المشروع بعضاً من دوره الوظيفي منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وانكفاء الحركة القومية العربية، والوجود المباشر للولايات المتحدة في المنطقة. في هذه التسوية، وكل تسوية طرحت حتى الآن، يبدو الوجود الفلسطيني عبئاً زائداً، يجرى العمل بجد للتخلص منه. أما القضية الفلسطينية فيجرى تحويلها إلى قضية تطبيع الوجود الإسرائيلي، أي تحويل هذا الوجود من «وجود رغماً عن التاريخ» إلى «وجود في التاريخ»، وإن بقيت باسمها الأول إمعاناً في التضليل. مشكلة هذا الطرح اعتباره أن ما تم الوصول إليه من تحطيم لحركة التحرر الوطني الفلسطيني، وانقلاب قيادة الحركة على المبادئ المؤسسة لها، هو وضع نهائي لا يمكن إجراء تعديل عليه. يتجاهل هذا الطرح أيضاً عقدة التسوية من الموقع الإسرائيلي، فعلى رغم مرور عقود على تبني الجانب الرسمي الفلسطيني والعربي التسوية مع إسرائيل على أساس دولتين لشعبين، وعلى رغم حجم الإجحاف بحقوق الشعب الفلسطيني الذي تمثله هذه التسوية، إلا أن إسرائيل لم تقبل حتى الآن أي صيغة لتطبيق هذه الرؤية. كان العقدان الأخيران مجالاً لتجريب هذا الاعتقاد الخاطئ، حيث تبين أن الشعب الفلسطيني لا تزال لديه القدرة على التحمل، والإصرار على الاستمرار، وأن نخبه لا يزال فيها من يستطيع طرح بدائل. من الجانب الآخر ظهر الاستعصاء الإسرائيلي غير قابل للحل، وبقي مكمن تناقضات جمة، منها: قدسية الأرض من جانب، وحقيقة كونها أصغر من أن تقسم من جانب آخر، وشح المياه المتزايد، وهو ما يتوقع العديد من المختصين الرصينين أن يكون أهم مواضيع الصراعات في المنطقة في المقبل من الأيام، والعجز عن تثبيت الرواية التاريخية الصهيونية وتحويلها لرواية مهيمنة، بما فيها أسطورة «أرض بلا شعب»، الأمر الذي لا يمكن أن يحدث من دون إقرار الفلسطينيين أنفسهم بها، أي تحول الفلسطينيين لهنود حمر في سياق نفيهم التاريخي، حاضراً ومستقبلاً وماضياً أيضاً. فعلى عكس من يعتقد أن مقولة «أرض بلا شعب» تعني عدم وجود سكان في فلسطين قبل 1948، تعرف الصهيونية أنها تعني عدم وجود «شعب فلسطيني»، أي انتفاء وجود محددات الشعب لدى من كان في فلسطين قبل 48، حتى أن الرواية الصهيونية ما زالت تدعي انعدام استثمار الأرض، وتميز بين إشغال محدود – بحسب ادعاءاتها - للأرض والثروات وبين امتلاكها، وتقلل من شأن المدن الفلسطينية التي كان في إحداها واحد من أهم الموانئ في المتوسط. القضية على الأرض، وعلى رغم الصورة التي تقدم رسمياً، هي محصلة التناقضات المتولدة من إرادة طرفي الصراع، وحاجات ومصالح كل منهما. فحتى قطاع غزة الذي حصل قرار التخلص منه على ما يقارب الإجماع الإسرائيلي حين قورنت فوائد الإبقاء عليه بمضارها، وهو الأعلى كثافة في العالم، قد سبب إرباكاً كبيراً للمؤسسة الصهيونية حين تم اكتشاف الغاز على شواطئه. حينها نهضت أشد مخاوف الصهيونية إفزاعاً دفعة واحدة، وإن انفتح باب لخلاصها حين أدى الانسحاب من غزة لانقسام فلسطيني انتصر فيه الإسلام السياسي الصاعد على الحركة الوطنية المأزومة. أصابت صدمة غزة أيضاً رعاة التسوية الذين عاشوا آمالاً وردية عن اعتدال الفلسطينيين (والاعتدال هنا هو التسليم بالتسوية بود وحبور) حين تتحسن شروطهم المادية، وهي الآمال التي ما زالت تداعب خيال المانحين، استناداً لرؤية ليبرالية اقتصادية تهيمن على مراكز صنع القرار في الغرب، وإن تعاظم الاعتقاد لديهم بضرورة معاقبة من يتحداها. إدراك مكامن الاستعصاء السابقة الذكر يبرر اهتمام الدول المانحة في بناء مؤسسة أمنية في الضفة الغربية، وهو ما يعني أن قمع الشعب الفلسطيني هو بند أساسي على جدول أعمالها، وأنها تترك للمستقبل حسم ما إذا كان القمع ناجعاً من أجل «الحل»، وكذلك تحديد تصور الحل الذي يحظى بموافقة إسرائيلية وفرص للتطبيق. الغائب الأكبر في هذه التسويات القائمة تكريس التفوق والفصل العنصري لمصلحة المحتلين هو ثلاثية العدل والحرية والمساواة. وهو ما يعني أن المنطقة ستبقى محكومة بمعادلة مفادها: إطباق آليات القمع على المقهورين، وعنف المقهورين ضد الاحتلال ما استطاعوا. * كاتب فلسطيني.