شعراء وموسيقيون عراقيون يحتفون ببغداد عاصمة للثقافة العربية 2013، بما يشبه الاحتجاج على محاولات مسخها وإخضاعها لهوية تتقلص فيها الحريات. وأخيراً استقطبت مؤسسة «برج بابل» الثقافية جمهوراً متنوعاً لإحياء ليال بغدادية غير مألوفة. الناشطون في المؤسسة التي ترفض أن تسمي رئيساً لها، يحاولون لفت انتباه الوسط الثقافي، والجمهور العام، إلى مناسبة اختيار بغداد محفلاً ثقافياً. ويقول الإعلامي عماد الخفاجي إن «المناسبة ليست حكراً على ما تقدمه المؤسسة الرسمية في البلاد، هذا حدث يهم جميع العراقيين وعليهم رعايته وإظهار قدرتهم على الحياة، وإنهم يحبون هذه المدينة ويتجاوزون معها ويلات العنف وما خلفته الصراعات السياسية». ليالي «برج بابل» الأسبوعية، وفي بنايته المطلة على نهر دجلة من جهة شارع أبي نواس، جمعت الشعر بالموسيقى، واستضافت موسيقيين وملحنين مثل كوكب حمزة وكريم وصفي وسرور ماجد وإحسان الإمام، والشاعرين شوقي عبد الأمير وحميد قاسم، كما قدم «البرج» عرضاً مسرحياً عن مرور عشر سنوات على غزو العراق كان فكرة الإعلامي سيف الخياط وإخراجه. في ليلة شوقي عبد الأمير الذي لم يعتد الجمهور العراقي عليه في منصة بغدادية منذ عقود، قرأ نصوصاً قديمة وأخرى حديثة له. وبدا حريصاً على نقد الزمنين العراقيين ما قبل 2003 وما بعده. وأظهر احتجاجاً على السياسة التي خلفت الموت والدم والاضطهاد، رغم اختلاف الأسماء والانتماء: «إلى القيادات القطرية والقومية لحزب البعث (...) أبطال الهزائم المنكرة والمذابح الجليلة، إلى المحافل الدينية والمواكب الحسينية (...) إلى مجالس الذكْر ل «الأخوة المسلّحين»، حتى الأضراس والمصفّدين بالأحزمة الناسفة». كانت دعوة شوقي، وفي رمزيتها التي تشمل متناقضات وأضداداً عراقية، تصريحاً شعرياً بأن المختلفين أيديولوجياً يشتركون في آلام عراقية. وشوقي يدعو هؤلاء على أنغام عود إحسان الإمام، المغترب العائد من لندن: «نَدخل معاً مقاهي وحانات الشعراء المحدثين والمتصعلكين، نصلي في جميع المساجد والكنائس والحسينيات، خلفنا تصطف ألوف المصلين (...) لأعلن باسم أولاء جميعاً للزعماء وللأعيان، للرعاع وللدهماء للعلاّسين وللصكاكين* أعظم يوم للحداد، يوم لا يعانق فيه القاتلُ إلاّ القاتلَ، والقتيلُ إلاّ القتيلَ». أمسية الشاعر حميد قاسم جاءت باحتجاج مماثل على خراب بغداد. وفي النص الذي قرأه صور عن المدينة «التي تبعث على الحزن» وتجعل أبناءها غرباء في منفى داخل الوطن. صوره المزدحمة تلك انشغلت بأضرار فادحة بالمكان والإنسان: «مذ لم تعد هناك تنورات يرفعها الهواء بلطف لتعيدها أصابع الفتيات، وهي ترتعش، إلى الأسفل، هواؤك العاصف لم يعد قادراً على إزاحة الجبب والبنطلونات، هواؤك لم يعد قادراً على أن يرينا القليل من النعومة والبياض، لا في ساحة الميدان، ولا غيرها». الصور التي ازدحمت في نصوص حميد قاسم الوجدانية، من دون استعراض أو تورية، كانت تخفي يأساً من استعادة المدينة العالقة في ذهن الشاعر وأقرانه، وكأنه هنا يتعايش مع عزلة قسرية داخل عاصمته الأثيرة: «أكتب في الظلام، معي قنينة خمر، وكيس كبير مليء بالجوز والفستق واللوز، والرطوبة (...) ومعرفة ساذجة بالإنكليزية (...). الحياة هنا سافلة، وملوثة بالوحل. الوحل الذي يلوث أحذيتنا، ونهايات بنطلوناتنا وأرواحنا». انكسارات المدينة كان حميد يسرد انكسارات المدينة مع عزف على آلة «التشيللو» للموسيقار العراقي كريم وصفي، مع فرقته الشبابية. لكن ليلته تلك ختمها عرض مسرحي ارتجالي لسيف الخياط، وكان محاولة لتلخيص عشر سنوات على غزو العراق وإسقاط نظام صدام حسين كما يراه هو. وقدم الخياط عرض «بث مباشر» متقمصاً فيه دور صحافي عراقي ينقل خبر الذكرى العاشرة للثنائية الجدلية «الاحتلال - التحرير». الخياط في غرفة مظلمة، مع لاقطة صوت وبرميل مشطور طولياً إلى نصفين: «الأوضاع هنا في ساحة الفردوس (حيث أسقط الأميركيون تمثال صدام) مستقرة. لا حوادث عنف، ولا أعمال شغب. سوى أن برميل النفط هذا لا يزال يهدد العراقيين بدفع المزيد من الأثمان، دماً وكرامة». يقول الخياط عن عرض «بث مباشر» إنه «يجسّد شخصية مواطن عراقي يفقد إحساسه بعامل الزمن بمرور 10 سنوات، يشعر بها كأنها أيام بسبب تناقضاتها وقسوتها». ليلة أخرى في برج بابل كانت أخف وطأة من جهة تذكير المثقفين بمآل مدينتهم في عرسها الثقافي، وتعرض للناس آخر صورة لأوضاعهم المتناقضة. تلك كانت ليلة الملحن العراقي كوكب حمزة الذي اضطرته معارضته نظام البعث لمغادرة البلاد. غنى حمزة، مع موسيقيين أنشدوا ألحانه مثل سامي نسيم وحسن بريسم وجعفر جاسم وحازم شهيد، لحشد من محبيه أغنيات ارتبطت بذكريات العراقيين عن زمن مضطرب ومعقد كما هو اليوم. * العلاس: مصطلح عراقي يعني الخاطف. الصكاك: تعني قاتل الشخص المخطوف