غابت إيمان حمصي، «سيدة القانون» كما سمّيت بعدما احترفت العزف عليه احتراف الموسيقيين الكبار، ومنحته هالة وحضوراً ساطعاً نادراً ما عرفه بصفته آلة وترية شرقية. غابت «شاعرة القانون» في مقتبل ربيع فنها، هي التي درست الموسيقى باكراً جداً ثم اختارت التخصص في فن القانون، بعد دراسة أكاديمية في المعهد الموسيقي الوطني العالي الذي تخرجت فيه عام 1999 حاملة أرقى شهاداته. ولم تكتف بدراسة الموسيقى بل أرفقتها بدراسة الهندسة وحصلت فيها على الدبلوم. ولعل هذا الاختصاص مدّها بخبرة أخرى في مهمة بناء الأعمال الموسيقية التي وضعتها للقانون، جامعة بين العزف والتأليف. ويكمن سر إيمان حمصي في إصرارها على منح القانون وظيفة مستقلة، إضافة إلى كونه آلة ترافق الفرقة العازفة وتؤدي دوراً في بناء الأعمال الموسيقية وتلوينها. جعلت الفنانة من القانون آلة على حدة، إن أمكن القول، وراحت تعزف عليه وحده مانحة إياه حيزاً إبداعياً عميقاً، ومضفية على أوتاره مواصفات ميلودية وهارمونية غير مألوفة. ولعل المقطوعات التي ألفتها للقانون أو القطع الموسيقية التي خصتها به أو خصته بها، خير دليل على فرادة التجربة التي خاضتها في هذا الميدان. ومعروف عنها أنها ابتدعت طريقة جديدة في العزف على القانون مستخدمة الأصابع العشر، مع حفاظها على تقنية الأصبعين الخاصة بهذه الآلة الوترية. هذه الطريقة في العزف انطلقت بها مع المطربة غادة شبير، صديقتها ورفيقتها في معظم أعمالها الغنائية والإنشادية الدينية، وغايتها أن تمنح القانون قدرة كبيرة على التنويع الهارموني وعلى أداء دور موسيقي شامل. وكانت إيمان تستعد لتدوين هذه التجربة في كتاب علمي تشرحها فيه نظرياً، لكنّ الموت سبقها فلم تكمل عملها. والمهمة الآن تقع على عاتق المطربة غادة شبير، صاحبة التخصص العلمي، وصاحبة الصوت الراقي والخبرة العميقة في الموسيقى، لا سيما أنّها تعاونت كثيراً مع إيمان، عزفاً ونظرية. وفي حفلاتها كانت تطل إيمان كمؤلفة وعازفة في آن. لم تكن إيمان حمصي تجلس إلى القانون لتعزف على أوتاره بل كانت تبدو كأنها تنحني أو تحنو عليه وكأنه فلذة كبد وليس آلة. هذا ما لاحظه أو شعر به من كان يشاهدها في إطلالاتها المتعددة، الفردية والجماعية. ومنها إطلالاتها مع المطربة فيروز التي دأبت على مرافقتها في معظم حفلاتها بدءاً من العام 1990. وكانت فيروز تصر على مشاركة إيمان، حباً بها وإعجاباً. وكانت إيمان تؤجل كل عمل وموعد لتشارك في حفلات فيروز. ولا تنسى أيضاً إطلالاتها مع الفنان الكبير مارسيل خليفة، في حفلاته الموسيقية والغنائية، وهو كان يوليها كبير اهتمام ويفرد لها ولقانونها حيزاً خاصاً. وطبعاً إطلالاتها في كل حفلات غادة شبير، المتميزة برقيها وجمالياتها، وبعض حفلات الموسيقي شربل روحانا. وأطلت إيمان في حفلات كثيرة في لبنان وبعض الدول العربية والأجنبية، وشاركت في لقاءات موسيقية عالمية عدة. خاضت إيمان حمصي تجربة فريدة في عالم القانون، تأليفاً وإعداداً وعزفاً وتقسيماً، وقد أضافت إليه ما يسمى حال الأداء وكأن القانون تحت أصابعها الرشيقة يؤدي أو يغني. وهذا فعلاً ما أنجزته بقدراتها التقنية وأحاسيسها ومشاعرها التي أتاحت لها التوغل في «دواخل» الموسيقى المعزوفة وكأن الأصابع تتصل بالقلب مباشرة من دون أن تتخلى لحظة عن المهارة في ملامسة الأوتار وملاعبتها. عندما أطلت إيمان حمصي قبل أعوام لفتت الجمهور، المسرحي والتلفزيوني، في كونها أولاً امرأة تعزف على آلة غالباً ما جذبت العازفين الرجال ثم في عزفها نفسه الذي يتميز بالرهافة والإحساس العميق والوعي التقني للآلة وشروطها. ولم تلبث أن راحت تحترف فن هذه الآلة، متخطية مهمة العزف إلى الأداء المتفرد والتأليف، مختبرة معطيات القانون كآلة وموسيقى، ساعية للبحث عن طرائق خاصة في التعاطي مع الموسيقى الشرقية ومقطوعاتها. ونجحت فعلاً، هي ابنة الاختصاص الأكاديمي في أن تطوع هذه الآلة، جامعة بين الطابع الشرقي والطابع الغربي، كما بين الكلاسيكية والحداثة، بين الارتجال والتدوين الموسيقي. كانت إيمان تتهيأ لإصدار أسطوانة جديدة بعد أسطوانتها السابقة «اللورد قانون»، تضم مقطوعات ومعزوفات، تتراوح بين التأليف والاستعادة، لكن الموت، الموت القاسي غافلها. وهي كانت أمضت سنوات تتعارك مع المرض الخبيث الذي انتصر أخيراً على جسدها ولكن ليس على روحها وفنها وابتسامتها الجميلة وصورتها البديعة منحنية على القانون انحناء الأم على وليدها.