لم تعد الفجيرة بالنسبة إليّ مجردَ مقصد سياحي أو محطة لتلبية دعوة ثقافية/ فنية، صارت بيتاً ورَبعاً وديرة. عرفتها منذ سنوات، وراحت علاقتي بها تتعمق وتتوطد حتى صرتُ فجيريَّ الهوى، ترتاح نفسي لتلك الشطآن المسترخية على سواحل بحر العرب المُطمئنة إلى جبال متراصة كحرس ملكي لا يمل ولا يسأم، والأحلى من المكان، المتميز بطبيعته المختلفة، ناسُه الطيبون وما فيهم من فطرة وسليقة لم تشوهها الاستهلاكية المتوحشة التي تفترس البشر والحجر في عصر العولمة الذي يُنْشِب مخالبه في رياح الأرض الأربع. منذ عشرٍ بالتمام والكمال، حَلَمَ بضعةُ شباب من أبناء الفجيرة بأن يكون لمدينتهم نصيب على خارطة المهرجانات الفنية/ الثقافية التي تشهدها مدنٌ إماراتية وعربية عديدة. كثر استغربوا الحلم، وقلّةٌ راهنت على أن عزيمة الشباب وحماسته وشغفه كفيلة بصناعة المستحيل، فكان أن وُلدَ مهرجان الفجيرة الدولي للمونودراما (مسرح الممثل الواحد) وراح ينمو ويترعرع ويكبر حتى أمسى واحداً من أهم المهرجانات في مجاله، يستقطب ممثلين ومسرحيين من أرجاء المعمورة كلها. ثم كان مهرجان الربابة، الآلة الموسيقية المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالصحراء وشجن البداوة وحنينها، ومهرجان المسرح المدرسي، وملتقى الفجيرة الإعلامي، وهو بيت قصيدنا في هذه الأسطر. قبل أربع سنوات انطلق ملتقى الفجيرة الإعلامي بالتعاون مع جامعة عجمان، كان في دورته الأولى أشبه بحلقة دراسية أو جامعية بسيطة ومتواضعة، ثم راح ينمو، تماماً كما حصل مع مهرجان المونودراما، وتلك رؤيا صائبة من هيئة الفجيرة للثقافة والإعلام، التي ترمي بذرة في تربة خصبة متعطشة لكل جديد مختلف ومُغاير، وتروح تسقيها وترويها على مهل وبهدوء حتى تنبت وتتفتح وتثمر وتؤتي أُكلها كل حين. مقارنة سريعة بين المؤتمر في دورته الأولى قبل أربع سنوات ودورته التي انعقدت قبل يومين، تتيح لنا ملاحظة كيف انتقل سريعاً من مرحلة إلى أخرى وخطا خطوات جيدة على درب النضوج والاكتمال، وهذه عينة من بعض الأسماء التي كانت ضمن ضيوف الملتقى لهذا العام، من إعلاميين ومثقفين وناشطين: الأميرة ريم العلي، روبرت هالوي (مدير عام وكالة الصحافة الفرنسية)، رندة حبيب، محمد الحمادي، محمد التونسي، رياض نعسان آغا، عبد الوهاب بدرخان، أمجد ناصر، د. سعد بن طفلة، د. نجلاء العمري، فيصل الشبول، جريس سماوي، مختار القماطي، معن البياري، مروان الصواف، أسعد فضة، عبد العزيز السريع، بندر المطيري، عبد الكريم برشيد، فاطمة بن محمود، ميسون أبوبكر، أسماء الحاج، حسام عبد الهادي، جمال آدم... وسواهم من ضيوف عرب وأجانب. ولئن كنتُ أُعدّد أسماء زملاء كتّاب وشعراء وإعلاميين، فلكي أُدلّل على المكانة التي بلغها الملتقى في سنته الرابعة، لكن الأهم يبقى في ما تم طرحه للنقاش بمشاركة نخبة من طالبات الإعلام في المنطقة، انطلاقاً من عنوان الدورة نفسها: «الإعلام بين المصداقية والتضليل»، وهي قضية اليوم في عالمنا العربي. «الإعلام العربي: هل نجح في كسب ثقة الجمهور؟»، «الإعلام الغربي وتأثير «مصداقيته» على الإعلام العربي؟»، «تأثير الأحداث العربية المتشابكة على مصداقية إعلام الحكومات»، «مصداقية مواقع التواصل الاجتماعي الإعلامية»، «الجمهور الحائر أين يجد مطلبه؟»... هي -وغيرها- عناوين تمت مناقشتها في الملتقى، وكان واضحاً أن المتغيرات العربية، فضلاً عن تطور دور وسائل الإعلام الاجتماعي قد فرضت نفسها وساهمت في رفع مستوى حرية النقاشات، التي لم نكن نتخيل قبل سنتين أن تدور في أي مدينة عربية بوضوح وصراحة وشفافية من دون أي خوف من المحاذير والمحظورات، ولئن كان سقف الرأي قد ارتفع في مدننا العربية، فالفضل أولاً وأخيراً لأولئك الذين استشهدوا ويستشهدون كل يوم لأجل الحرية؟