بعد مجموعة المعارض المهمة التي رصدتها لأبرز وجوه الفن السرّيالي على مدى السنوات العشر الأخيرة، تعود غاليري مالانغ الباريسية العريقة إلى بواكير فن القرن العشرين عبر تنظيمها حالياً معرضاً مثيراً لمبتكر نظرية «فصل المساحات الملوّنة» (cloisonnisme)، الرسّام الفرنسي إميل برنار (1868-1941)، وتحديداً للمرحلة المهمة في مساره التي عُرفت باسم «بون آفِن» (Pont-Aven) ولمع خلالها نجم هذا العملاق إلى جانب بول غوغان وبول سيروزيي وبول إميل كولان... المعروف عن هذا الفنان خلال تلك المرحلة (ثمانينات القرن التاسع عشر) هو أنه كان شاباً واسع الثقافة ثار على التعليم الأكاديمي بعدما تغذى من فن المتاحف وتميّز بميلٍ كبير إلى الاختبار فساهم، إن بأفكاره أو بأعماله، في انطلاقة الفن الحديث. غوغان، فان غوغ، موريس دوني افتُتنوا بأسلوبه وعبقريته وكتبوا أجمل النصوص والتعليقات حوله، كما يتجلى ذلك لنا في كاتالوغ المعرض. أما نظرية «فصل المساحات الملوّنة» فوضعها برنار بين عامَي 1886 و1887 كردّ فعل على الأسلوب الانطباعي بمختلف نماذجه، وساهمت بقوة في انبثاق التيارين التوليفي والرمزي. وتجدر الإشارة هنا إلى أن بول سيزان هو الفنان الأول الذي طرح تلك الرؤية التوليفية للفن التي تشكّل نقيض الرؤية التحليلية التي طرحها الرسامون الانطباعيون؛ رؤيةٌ كان برنار وغوغان أوّل من ناقشها وطوّرها أثناء إقامتهما في بلدة بون آفِن الفرنسية عام 1888، وتقوم على الرسم انطلاقاً من الذاكرة وعلى التخلي عن العمل في الهواء الطلق وعن نقل المشهد المرسوم بأمانةٍ لصالح تأويل هذا المشهد ذهنياً. وتُعتبر لوحة برنار «النساء في المرج» (1888) الموجودة في المعرض، التجسيد الأدق والأوّل لهذه الرؤية نظراً إلى استباقها، ولو ببضعة أشهر، لوحة غوغان «رؤية العظة» التي يعتبرها معظم النقاد على خطأ نقطة انطلاق المذهب التوليفي. وحول هذا العمل الشهير، تتوزّع داخل المعرض عشرات اللوحات المهمة التي تمثّل مختلف جوانب إنتاج برنار خلال تلك المرحلة المجيدة: الطبيعة الجامدة، مشاهد من حياة القرويين في مقاطعة بريتانيا (خلال عملهم اليومي، في الكنيسة، في السوق)، مستحمّات، بورتريهات ذاتية... ولفهم مسعى برنار، لا بد من التوقف عند نظرية «فصل المساحات الملونة» التي ابتكرها انطلاقاً من ثلاثة مراجع: فن الزجاجيات، وتحديداً طريقة تعشيق قطعه بشكلٍ ظاهر للعين التي قادت الفنان إلى محاصرة جميع نماذج وتشكيلات لوحاته بخطٍّ أسوَد يحول دون فيض حقلٍ لوني على آخر، ومنها استوحى عبارة Cloisonnisme؛ ثم أسلوب سورا التنقيطي الذي دفعه إلى تبسيط رسمه وتقوية خطوطه بهدف هيكلة حقول الألوان المنفّذة بطريقة تنقيطية مرهِقة ومملّة اعتبرها بسرعة طريقاً مسدوداً؛ وأخيراً، فن الرسم المنسوخ (estampe) الياباني الذي يتميّز بمسطّحاته الأحادية اللون وبغياب أي منظورٍ أو ظلّ في فضائه، وقد تعرّف برنار على بعض نماذج هذا الفن داخل المعرض الذي نظّمه فان غوغ في باريس عام 1887 حول هذا الموضوع، وعثر بفضله على أجوبةٍ حاسمة عن أسئلته. كثيرة هي النصوص والرسائل التي تطرّق الفنان فيها إلى طريقة رسمه، ودقيقة إلى حدٍّ يعفينا من مهمة وصف أو تحليل مسعاه الفني. ففي إحدى هذه الرسائل، نقرأ: «حين أتنزّه أصطدم بأشكالٍ وألوانٍ وترتيباتٍ تستقرّ في دماغي كمواد متفرّقة في ورشة عمار. بعد ذلك، ألتقط نفسي من داخل أكثر الأشياء التي أثّرت فيّ وأحقِّق لوحتي. ثمّة عمل داخلي يحصل بلا وعي؛ كل ما لا يتوافق وطبعي يتوارى من تلقاء ذاته؛ وما يبقى له حقاً علاقة بي». وفي رسالةٍ أخرى يقول: «لأن المشهد التزييني هو الوحيد الذي يمكن إنتاجه، لا أرى في فن الرسم شيئاً آخر سوى ماهيّته بالذات، أي تزيين صافي. طبعاً، بعض المواقع تتمتّع بجانب تزييني أكثر من غيرها، لكن قمة العبقرية تكمن في استخلاص من أي موقع خصوصياته التزيينية الأساسية والارتقاء به، إمّا عبر طريقة اقتطاعه أو عبر معالجته بواسطة التأويل وليس النسخ. مشروعي إذاً هو تصفية الأشكال والألوان كي لا يبقى منها إلا الضروري فقط، وتجنُّب أي ضربة ريشةٍ صغيرة ظاهرة أو نتوءٍ وسخ أو حيادي، بهدف بلوغ عملٍ فني يخلّف أثراً أو صدىً فينا يمنعنا من محاولة إضافة أو حذف أي شيء منه». باختصار، سعى برنار طوال مرحلة «بون آفِن» إلى رسم أفكاره ليس حبّاً بمناقضة رسم الانطباعيين الطبيعي بل لحاجةٍ ذهنية. فلأن الفكرة هي شكل الشيء كما يحضر داخل المخيّلة، اعتبر الفنان أنه يجب أن لا نرسم أمام الشيء بل من خلال استعادته من داخل المخيلة التي استوعبته واحتفظت بفكرته. بهذه الطريقة، تجلب فكرة الشيء الشكل المناسب لموضوع اللوحة. وحتى عملية تبسيط أو توليف الأشياء المرسومة هي، في نظره، عملية نابعة من طبيعة الفكرة التي لا تحفظ إلا جوهر الأشياء المُشاهدة وتُهمل التفاصيل، تماماً مثل الذاكرة التي لا تحتفظ بكل شيء بل بما يصدم النفس أو الذهن. أما أفضل وصف تحليلي لعمل برنار وأسلوبه في الفترة المذكورة فهو التعريف الذي وضعه بنفسه للمذهب الرمزي، بعدما شارك في انبثاقه، ويقول فيه: «الرمزية هي نظام تزييني مشابه لفن الزجاجيات وصناعة السجاد. طرف الأشياء والنماذج الماثلة ظاهر، الأشكال مقولبة بإيجاز أو غير مقولبة على الإطلاق، تدرّج الألوان محظور، ضربة الريشة لا تلعب أي دور، النتوءات غائبة كلياً، الألوان مطلية بشكلٍ صافٍ وبأقل نُصولٍ ممكن كي تحدِّد المناخ الذهني للوحة. أما الأسلوب فناتج عن الذكرى التي تركها الشيء داخل الفنان. (...) الرمزية فنٌّ ينبع من الذاكرة ويسترد داخل الذهن ما تمت رؤيته في الخارج».