ثمّة أمر واحد يميّز كلّ المصطلحات التي تُنسب إلى حقوق الإنسان - أي حريّة التعبير، وحريّة الضمير، وحرية عدم التعرّض لاعتقال تعسّفي، وإلخ - وهو أنّه ينبغي التعبير عنها بالكامل ومن دون السماح بإجراء أية استثناءات خاصّة. فعندما تمّ إعلام «كليّة لندن للاقتصاد» بأنّه غير مرحّب بإحدى كليّاتها في مؤتمر حول «الربيع العربي» كان من المقرّر عقده بالاشتراك مع «الجامعة الأميركيّة في الشارقة» خلال شهر شباط (فبراير) الماضي، كان لا بدّ لها أن تلغي الحدث كلّه، وهذا ما علمت به شخصيّاً فقط بعد وصولي إلى المطار في دبي مبدياً كامل استعدادي للمشاركة في هذا المؤتمر. ويتميّز هذا الموضوع بأهمّيته التي تطاول نواحيَ عدّة. أوّلاً، يجب أن تُعنى جامعات جديدة ك «الجامعة الأميركيّة في الشارقة» في شكل خاصّ بتأسيس سمعة لنزاهتها الأكاديميّة، من خلال السماح للطلاب بالتعبير عن آرائهم بحرية في حرم هذه الجامعة، إذا ما أرادت جذبَ الطلاب الكفوئين، كما عليها التمتّع بصدقيّة كونها تشكّل مركزاً عالميًا جديداً للبحوث والتفكير الناقد. وهذا ما يجب الحرص على تحقيقه، عندما تكون هذه الجامعات قد تأسّست بناءً على مبادرة من الحكّام المحليين الذين يهتمّون بدفع الفواتير والذين يُشتبه بأنّهم يريدون منع التعليم أو الكتابة اللذين قد يساهمان في إثارة الشكوك حول حكمهم. ثانياً، لا بدّ من التشكيك بالمشروع الهادف إلى تصدير المفهوم الأميركي لتعليم الفنون الليبيراليّة مع تركيزه على البحث الناقد، والاختيار الذي يعود إلى الطالب، والتمثيل النسائي العادل، وذلك عندما لا يمكن قبوله بالكامل من دون إبداء أية تحفّظات مهّمة عليه. من هنا، تظهر أهميّة التصويت الأخير الذي أُجري في الكلية والذي عبّرت خلاله الغالبية الساحقة عن عدم ثقتها برئيس «جامعة نيويورك» وبخطّة شبكة الجامعة العالمية، ويُعزى سبب ذلك جزئيّاً إلى إنشاء جامعات أجنبية جديدة في بلدان يغيب عنها ضمان الحريّة الأكاديميّة. وفي هذا الإزاء، ينبغي التنويه بأنّ الولاياتالمتحدة الأميركية نفسها تواجه في وضعها الراهن، عدداً من المشاكل في مجال الحرية الأكاديميّة، والدليل على ذلك احتجاجات الطلاب ضدّ بعض القيود المفروضة على رئاسة «كلية بوسطن» التي تديرها طائفة الكاثوليك، قرب مقرّ سكني. ومع ذلك، تتمّ المحافظة على توازن هذا الوضع إلى حدّ ما من خلال وجود آليّات للمناقشة والحوار في أميركا، إضافة إلى إمكانيّة اللجوء إلى القانون، الأمر الذي يجعل إيجاد حلول لهذه المشاكل مسألة تنازلات متبادلة ضمن الإطار المحدّد لكلّ جامعة. ولننظر من جهة أخرى في قرار المحكمة العليا الأخير برفض استئناف رفعه أستاذ في «جامعة كولورادو» ضدّ إقالته من منصبه عام 2007، ليس بسبب ما قاله - أي أنّ الاعتداء على ضحايا الهجوم الإرهابي على نيويورك في 11 أيلول (سبتمبر) يحميه التعديل الأوّل للدستور الذي يضمن حريّة التعبير - ولكن بسبب اكتشاف زملائه، وليس من طريق الصدفة، أنّه يؤلّف كتباً ومقالات مليئة بأفكار مسروقة من أعمال أخرى. وهذا هو المهمّ، فعلى رغم إدراجه في البنود المطلقة، لا يُعطي أيّ مجتمع أو دولة الحقّ للمواطنين بالتعبير عن كلّ أفكارهم والتصرّف على سجيّتهم، فكيف ستكون الحال في الولاياتالمتحدة، بعد توسيع نطاق الحماية الدستورية لحقّ حريّة الكلام لتشمل حريّة التعبير أيضاً. إذاً، السؤال الذي ينبغي طرحه هو أنّه كيف يتمّ تحديد هذه القيود وتنفيذها، وتحت أية شروط، وعبر أية فرص للمناقشة والاستئناف؟ ففي الماضي، كان يفسح المجال دائماً أمام إعداد قائمة بالمواضيع والنشاطات المحظورة التي يتمّ الإعراب عنها وفقاً لما تمثّله من تهديد للسمة الخاصة لمبادئ الطوائف ومعتقداتها على الصعيد دون الوطني في الدولة، والتي تندرج ضمن مجموعة تعريفات، وإجراءات، واتفاقات كرّستها السابقة القانونية والممارسة. غير أنّه تتمّ دائماً المحافظة على توازن هذه القائمة عبر اللجوء إلى معتقد عامّ متساوٍ، تكون قد أقرّت السلطات القضائية وعدد من الصحافيين على الأقلّ، بأنّه يصبّ في المصلحة العامّة، وعليه لا يجب السماح بالتمادي في عمليّة الحظر هذه. إلى ذلك، تمّ إفساح المجال أمام الطوائف والمؤسسات لاستحداث مجموعة قوانين خاصّة بهم، كقانون إنتاج الأفلام (هيز كود) الذي صدر عام 1933 في ما يتعلّق بصناعة السينما الأميركيّة، وقد اتُفق عليه بغية عدم إثارة غضب الكهنة الكاثوليكيين في البلاد الذين يتمتّعون بصلاحية إعطاء أبناء رعيّاتهم تعليمات لتفادي مشاهدة بعض الأفلام المرفوضة دينيّاً. ومثال آخر على الصعيد الوطني، هو محاولة الجمعيّة التأسيسيّة الحالية للدستور في تونس، التي تظهر أهميّتها وصعوبتها في الوقت نفسه، فهي تشتمل على إعداد قائمة بالمواضيع والمعتقدات المقدّسة التي ستُدرج في البنود الأولى القليلة من الدستور الجديد. ومع ذلك، من الواضح أنّ المشاكل مستمرّة، ليس داخل البلدان الكبيرة التي تختلط فيها الشعوب فحسب، بل وعبر الحدود الوطنية حيث لا تزال القوانين مبهمة، وحيث تغيب المنتديات المخصّصة لحلّ كلّ خلاف جديد يطرأ. من هنا، تصبح المشاكل أكثر تعقيداً إذا لم يكن يطاول الحظر التعبيرَ عن أفكار محددة، بل يطاول أشخاصاً معيّنين يتمّ تحديدهم مسبقاً بعد الاشتباه بأنّهم يعتنقون هذه الأفكار، كما هي الحال بالنسبة إلى الدكتور كريستيان كواتس أولريخسن الذي تمّ ترحيله من دولة الإمارات العربية المتحدة. وأكثر ما يدعو إلى التأسّف هو حال الجامعة الأميركية في الشارقة من نواحٍ عدّة، فهي تُعتبر خلافةً ذات أهميّة كبيرة للجامعة الأميركية في بيروت، المؤسسة التي تتميّز بخبرة تاريخيّة طويلة في مجال التعامل الحكيم والديبلوماسيّ مع مشاكل مشابهة تتعلّق بحريّة التعبير والرقابة، وسط ظروف دقيقة في لبنان، الذي يغلب عليه الطابع الطائفي. والجدير ذكره، أنّ الرقابة الشخصيّة أمر مقبول بشرط أن تشكّل موضوع مناقشة عقلانيّة ولا يتمّ إخضاعها للإكراه. غير أنّه لا يمكن قبول أي قمع يُفرض في اللحظة الأخيرة، لأنّه دليل واضح على الاستخدام العشوائي للسلطة التي كانت ثورات الربيع العربي تحاول الحدّ منه. وعلى غرار شبّان ميدان التحرير، يمكن الافتراض أنّ أي حكومة تريد منع حريّة التعبير تحاول إخفاء حقيقة معيّنة. * أكاديمي بريطاني - جامعة هارفارد