اعتاد مهرجان التراث والثقافة السنوي الذي يقام على أرض الجنادرية منذ 30 عاماً أن يفتتح بأوبريت غنائي ضخم برعاية خادم الحرمين الشريفين وكبار الشخصيات من ضيوف المهرجان والمسؤولين، ويشاهده عبر التلفزيون ملايين الناس، وفي هذا الأوبريت تُغنى الأغاني التراثية، وتلعب فيه الفرق الشعبية من مناطق المملكة كافة. لكن هذه العروض التراثية حين تقام في الأجنحة التراثية تصبح منكراً يطارده رجال الحسبة ويمنعونه، وقد منعوا طلاب جامعة في جناح قرية جازان من أداء أوبريت بحجة وجود موسيقى، فتدخل أمير جازان وأعاده ومرّ الأمر بسلام، لكن الدنيا قامت ولم تقعد حين تصدى رجال الأمن لرجل الحسبة الذي اقتحم عرضاً شعبياً في جناح الإمارات أثناء رقصة «الكولة» الشعبية التي يقوم بها أطفال، مقاطعاً العرض ومتجهاً للمنصة، فعاجله أمن الحرس الوطني وأحاطوا به وطلبوا منه الخروج، لكنه لم يستجب حتى طوقه الحرس ودفعوه باتجاه خارج الحلبة. بثَّ المنافحون عن الدين مقاطع للحدث مفبركة تصور أن رجل الحسبة دخل كي يوقف فنانة تغني بين الناس وليس أطفال الكولة، ما اضطر وكالة الأنباء السعودية (واس) أن تصدر بياناً بالحادثة يوضح فيه قائد وحدة وأمن حرس الجنادرية ما حدث، وينفي وجود فنانة إماراتية في تلك الحادثة أو السماح لها بالغناء في جناح بلادها، تلاه بيان من الفنانة توضح أنها لم تغنِّ في الجناح بل صادف أنها مرت بجناح الإمارات وحيّت الجمهور بنشيد تراثي من دون موسيقى ولمدة 28 ثانية وخرجت قبل وصول رجل الحسبة، ثم توضيح أن رجل الحسبة لم يدخل أثناء وجود الفنانة بالجناح بل بعدها بعشر دقائق، وأثناء أداء رقصة فولكلورية، وأن رجل الحسبة لم يكن رجلاً ميدانياً بل هو إداري. بعد نشر مقاطع الفيديو على «يوتيوب» حاول البعض شحن الرأي العام برأي أقل ما فيه أن المتدينين في بلادنا يضيّق عليهم ويهانون، ولا أدلّ على ذلك مما فعله شيخ أدعى طوال عشرة أعوام مضت أن الوسطية السمحة أدركته بعد طول تطرف، وأن من حقه أن «يتغير»، فسارع بالتعليق على منع رجل الحسبة ودفعه خارج الحلبة على حسابه في «تويتر» بأن ذلك عمل «مهين ودنيء»، بينما الشيخ لم يرَ حجم الإهانة في التعدي على حق عائلات قطعت مسافة طويلة كي تشاهد فعالية تراثية من دون منغصات، وأن في التعدي على حقهم هذا إهانة ودناءة، ولم يرَ ولم يسمع الناس في مقطع الفيديو كيف كانت تصيح بالحرس «أخرجوه أخرجوه». استعجل الشيخ بتعليق متحيز كي يكسب التصفيق، وكذلك فعل بعض المسؤولين في جهاز الحسبة ليهدئوا الخواطر والوقوف في صف رجلهم لا في الصف الناس. كان الأجدى بشيخ الوسطية ومسؤولي الحسبة أن يوضحوا للناس - بدلاً مني - أن الأحباش رقصوا بحرابهم أمام رسول الله صلى عليه ومسلم في المسجد، أي في أطهر بقعة ولم ينههم رسول الله، بل قال «دعهم حتى يعرف اليهود أن في ديننا فسحة». ماذا لو أن رجال الحسبة شاهدوا رجالاً يرقصون في مسجد رسول الله مثلما فعل الأحباش وليس في فسحة كبيرة مثل الجنادرية؟ أين هذه الفسحة التي صارت عند رجال الحسبة أضيق من خرم إبرة؟ [email protected]