أثناء سيري في شارع الحمرا في بيروت قبل أيام، تناهت إلى سمعي أصوات مرتفعة وشاذة من الواضح أنها صادرة عن تجمع غير معتاد في هذا الشارع المليء بالحيوية ليل نهار. بدت الحمرا آنئذٍ المكان الأنسب على ما يبدو للاعتصام وإيصال الصوت الممانع إلى أوسع شريحة بشرية ممكنة، وبخاصة إلى السوريين الذين لا يفيضون عن بيروت وتحتضنهم هذه المدينة مهما بلغ تعدادهم وكثافة ارتيادهم بارات ومقاهي هذا الشارع العريق. ذلك الصوت لن يصل نتيجة الخطابات «المؤثرة» والتغطية الإعلامية «العالية المستوى» للاعتصام المُطالب بمطالب عبّرت عنها اللافتات المرفوعة. ذلك أن الميكروفونات التي كانت في يد خطباء هذا الاعتصام كانت إشارة إلى أن غُراب الممانعة هو الذي يخيم بجناحيه محاولاً أن ينقل السواد إلى شارع الحمرا وإن لدقائق، كما نقل الظلام لأيام إلى بيروت في 7 أيار (مايو) 2008. حق التعبير عن الرأي مُصان، وأنّى لكاتب سوري مقيم في لبنان أن يعتدي ويحاول مصادرة هذا الحق الذي كان لبنان سبّاقاً في حيازته، وإن رفع اعتصام الممانعة اللافتات والإعلام كواجهة لسلاح بالغ الخطورة تجاوز لبنان إلى الأراضي السورية والسوريين في سورية. تكاد اللافتات المرفوعة توحي بحجم الوداعة واللطف من حامليها على رغم الصوت المهدد من قبل أحد الخطباء الممانعين والعابِسي الوجوه، وهو يطلب من «الحشد» المؤلف من العشرين شخصاً حوله أن ينشدوا نشيد المقاومة. لم أستطع أن أتذكر جورج حاوي لدى ذكر المقاومة ونشيدها، ولا أياً من شهداء جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية الذين سقطوا على يد الاستخبارات السورية والمقاومة الإسلامية في الثمانينات. لم أستطع ذلك وأنا أرى قنوات «المنار» و «العالَم» و «الفضائية السورية» تغطي اعتصام الممانعة في لبنان والمتزاوجة إسلامويته مع قوميين سوريين حضروا الاعتصام، وباتت نظراتهم الغاضبة والمتوعِّدة معروفة لدى الناشطين السوريين ممن اعتادوا ارتياد شارع الحمرا. لافتات إطلاق سراح المخطوفين اللبنانيين ووضع حد لوجود «ميليشيا» الجيش الحر في لبنان تعبر بالمعنى المجرد عن مطالب محقة للبنان بأسره، ويا ليتها تتحقق في ظل دولة حقيقية ومغيَّبة ساهمت الأيديولوجية المرفوعة في ذلك الاعتصام في خنق كل إرهاصاتها المحتملة بعد انسحاب إسرائيل والنظام السوري من لبنان. الطريق إلى جهنم معبدة بالنوايا الحسنة واللافتات الأنيقة، وأي جهنم اليوم يمكنها أن تعادل ذلك الأتون السوري المنفجر في وجه ممانِع دمشق وطاغيتها، قاتِل السوريين الثائرين في وجهه والذي طالما دافع عنه الممانعون بالسلاح، قبل أن تمسي لافتاتهم وربطات عنقهم الأنيقة رسالة سِلمية وإعلامية إلى العالم ورسالة تهديد مبطنة إلى السوريين المقيمين في لبنان النازحين منهم والناشطين والمثقفين والكتّاب الذين لم يعانوا من نقص في حالات المتابعة والتضييق وحتى الخطف والتسليم إلى سفارة النظام السوري في بيروت، وتالياً إلى فرع استخبارات كفرسوسة في دمشق. هذا النوع من الاعتصامات المغطّى أسدياً وخمينياً هو دليل آخر على كثافة حضور الحدث السوري يومياً في لبنان، وهو حضور لا يتناسب وذلك التجمع الذي لم يتجاوز العشرين شخصاً رفعوا اللافتات التي تختزن كرهاً لكل ما من شأنه أن يكون بادرة انفتاح وتغيير في هذه المنطقة من البوابة السورية. غير أن المشكلة لا تكمن فقط في العدد الضئيل لأن هذا العدد الضئيل محمي بترسانة سلاح وأيديولوجية كادت أن تبتلع المشرق لولا أن اندلعت الثورة السورية ضد عائلة الأسد ووضعت حداً لذلك المشروع... المشكلة الحقيقية تكمن في استمرار انجراف كثير من اللبنانين إلى المواجهة مع السيل الجارف دفاعاً عن مستنقع لم تفلح تلك اللافتات الجذابة والملونة المرفوعة في اعتصام شارع الحمرا وغيرها في إخفاء تعفنه المزمن منذ عقود، واليومي منذ أسقطت الثورة السورية آخر أوراق التوت الصفراء عن جسده المشوَّه. * كاتب سوري