الاحتفالات التي رافقت تكليف النائب تمام سلام تأليف الحكومة اللبنانية اعادت الى الاذهان زمنا بيروتياً مضى ولغة انقرضت، أو كادت ان تنقرض. فمشاهد تنظيف مداخل قصر آل سلام في منطقة المصيطبة، وتلميع الزجاج فيه ونفض الغبار عن أثاثه استعداداً لعودة الحياة اليه، ثم الزفة التي استقبلت سلام والمهنئين، كلها مظاهر ترجع الى زمن كانت الزعامات السياسية فيه تنطلق من الحارات الشعبية وتقوم على ناسها. ثمة احتضان متبادل وتراتبية اجتماعية تتلاشى حيناً وتعود لترتسم أحياناً لكنها لا تغيب لحظة عن الطرفين. يكفي أن «البيك» فور عودته الى «بيت العائلة» رفض تفتيش رجال الأمن المتوافدين لتهنئته، كما رفض تحويل المنطقة مربعاً أمنياً آخر، ملمّحاً إلى أنه لا يخشى على نفسه وسط أهله. والواقع ان في إعادة افتتاح بيت سياسي يعود تاريخه الى أكثر من مئة عام في منطقة شعبية مكتظة دلالات سياسية لا تبتعد كثيراً عن مظاهر الفرح الذي انتاب البيروتيين بعودة رئاسة الحكومة ومن ورائها الزعامة السنّية اليهم. فمن شهد المعانقات وتبادل التهنئة يوم إعلان سلام رئيساً مكلفاً للحكومة العتيدة، لا يمكنه إلا أن يتوقف عند عقدين من الزعامة الحريرية التي تبين أنها لم تخترق العمق البيروتي. فظهر فجأة أن العتب المضمر على الحريري الاب، والحريري الابن من بعده حول «إغلاق بيوتات سياسية» و «إنهاء زعامات عريقة» ليس مما تجاوزه أبناء العاصمة كما بدا طوال العقدين الماضيين، تماماً كما لم تتجاوزه العائلات الصيداوية التقليدية. وانسحبت تلك الحالة الشعورية على اللغة المستخدمة في وصف استعادة الزعامة المفقودة سواء في الخطاب الشعبي أو الاعلامي الذي رافقها. فيكفي تمام سلام أنه الامتداد الطبيعي لوالده وجدّه ومواقفهما. إنه «ابن المصيطبة» و«النائب البيروتي» وليس «عن بيروت»، كما أنه سليل سياسة «التفهم والتفاهم» و «لا غالب ولا مغلوب»، وغيرهما من الشعارات التي تبدو أقرب الى الحكم الشعبية والمقولات الشائعة منها إلى المواقف السياسية الواضحة. وذلك هو السياق الفضفاض نفسه الذي يندرج فيه شعار المرحلة المقبلة «حكومة المصلحة العامة». وفي وقت يشبّه كثيرون اختيار سلام اليوم باختيار سليم الحص غداة حرب السنتين، محذرين من جولة معارك محتملة، جاءت الحريرية لتطوي صفحة الحرب الاهلية وترسي مفاهيم ما بعد الطائف. كان ذلك زمن زعامة الاقتصاد ورجال المال والأعمال والدور المستحدث لبيروت عاصمة للسياحة والإعلام والتسوق وكل ما يبعد عن السياسة المحلية أو الاقليمية. ذلك زمن التسوية الكبرى، حين كان لبنان «أصغر من أن يُبتلع وأكبر من أن يُجزّأ». وهكذا، فإن الحريرية التي لم تتسلل الى مزاج اهالي البسطة والمصيطبة ورأس بيروت، بنت لنفسها «معاقل» مثل فردان وسوليدير وقريطم تاركة خلفها شرائح اجتماعية وسياسية يمثلها اليوم سلام «البيروتي» كما مثلها يوم عزف عن الترشح للانتخابات النيابية في 1992 تضامناً مع مقاطعة المسيحيين. لكن، أياً يكن من أمر، فإن الزعامة السنية التي هددتها «حداثة» الحريرية وما شكّلته من وعي سياسي واقتصادي وأنماط اجتماعية واستهلاكية عادت اليوم الى كنف العائلة. ثمة شعور بالدفء والطمأنينة واعتزال المعارك تبثها تلك العودة في اوصال البيروتيين، كأن يتهامسوا في سرّهم حكمة أخرى من حكمهم بأنه «لا يصح إلا الصحيح». إنها ببساطة العائلة مقابل الشركة، البيك مقابل الشيخ، المصيطبة مقابل سوليدير. * صحافية من أسرة «الحياة»