في نهاية العام 2010، وقبل انطلاق الثورة المصرية، قدّم المخرج المصري محمد دياب فيلمه الروائي الأول الطويل «678» عن قضية التحرش الجنسي في بلده، مستنداً إلى أحداث واقعية. طرح الفيلم ما تتعرض له الفتيات في الأماكن العامة والضيقة من إهانات يومية، وعجزهن عن المقاومة. كان من أهم النقاط التي عالجها الفيلم، عجز المتحرَّش بها عن تقديم بلاغ إلى الشرطة، خوفاً من الفضيحة. أثار العمل يومَها الرأيَ العام في مصر، وطالبت جهات بمنع عرضه، لتشجيعه المتحرَّش بهن على استعمال العنف ضد المتحرشين. ويبقى الأهم أن «678» فتح نقاشاً جدياً حول أزمة تؤرق الفتيات، وتجعلهن أسيرات ملابس فضفاضة خوفاً من لفت الأنظار، ما ساهم في تأسيس وفي تشكيل مبادرات ضد التحرش وكيفية مكافحته. تنطلق المخرجتان اللبنانيتان دالية نعوس وكندة حسن في فيلمهما «كايروغرافي» مما بدأه دياب، ولكنهما تبتعدان عن المباشر والحبكة السردية لتغوصا في الألم النفسي الذي يتركه التحرش في نفس الفتاة. ينقسم العمل فعلياً إلى مشهدين طويلين، واللافت أن قضية التحرش الجنسي بأبعادها الاجتماعية والسياسية تشغل اليوم واجهة الاهتمامات والنقاشات والتحركات في المجتمع المصري بعد ثورة 25 يناير. يبدأ الفيلم برقصة ضمن مساحة ضيقة على إحدى الشرف المطلة على زحمة مباني القاهرة. تنتفض الراقصتان وتبدو ملامح خوف على وجهيهما. ثمة دمع يستعد للانطلاق، أيد خفية تلامس الجسدين، ذعر وقلة تدبير، لا تعرف الفتاتان كيف تتصرفان، تهربان من مكان إلى آخر ولكنّ ضِيقَ المساحة لا يسمح لهما بالفرار. وسيتبين لنا أن الرقصة التعبيرية في بداية الفيلم تنتمي أصلاً إلى ردود الفعل التلقائية التي تصدر عن فتيات خائفات عندما يتعرضن للتحرش في الشارع، على وقع موسيقى ومؤثرات صوتية وأنفاس ثقيلة منتشية. الرقصة على الشرفة، هي اختصار لما تتعرض له الفتيات في وسائل النقل والميادين العامة والشوارع الضيقة. حيث لا يقتصر التحرش على الملامسة، بل يتعداه إلى النظر والكلام والإهانة بذكر صفات وتعبيرات جنسية. تُظهر المخرجتان أن المتحرش يبحث عن فريسة تكون ذات شخصية ضعيفة، وغير قادرة على طلب المساعدة، أو أن خجلها من الفضيحة يمنعها من الصراخ مثلاً. في حين أن الفتاة القوية والجريئة تقل احتمالات تعرضها للتحرش. وصوّرت حسن ونعوس، على طريقة الكاميرا الخفية، فتاة في ميدان عام تطلب سيجارة وتدخنها، لرصد ردود فعل الشارع من الفتيات الجريئات. توجهت الفتاة إلى مجموعة شبان تسأل عن سيجارة، فذهل أفراد المجموعة من جرأتها، لكنهم استجابوا لطلبها وانصرفوا من دون أن يصدر عنهم أي تصرف مزعج لها. تقف الفتاة لتدخن السيجارة وسط الميدان العام، فيما ترصد الكاميرا حال استغراب من المارة وانكفاء شباب الشوارع عن توجيه أي كلمة أو مضايقة لها. وفي مشهد ثاني، تتمدد فتاة على سور حديقة في القاهرة، وهي حركة قد تبدو جنونية في مصر. ما أرادت المخرجتان قوله من خلال المشهدين، أن المرأة الخائفة والمرتبكة والخجولة، هي أكثر تعرضاً للتحرش والاستفزاز، في حين أن الفتاة التي تتصرف بثقة وقوة، تُبعد عنها المتحرشين، وقد تثير حالاً من الاستغراب والارتباك لدى المتحرشين. وبالتالي يقدّم الفيلم للفتيات بعض الإرشادات بطريقة غير مباشرة، من خلال مشاهده المتنقلة في المدينة، وما تضمنه من تجارب مصورة في الشارع، إذ ثمة -كما يوحي- سلوك معين يجب اتباعه لإرباك المتحرش وتخويفه بدلاً من أن يفعل هو العكس. ولا تقتصر المضايقات في شوارع القاهرة على النساء، بل إن ثمة رجالاً أيضاً يعانون «من انتهاك مساحتهم الخاصة» وسط الحشود، على رغم عدم ارتباط ذلك بقضية التحرش الجنسي. وفي هذا السياق ترصد الكاميرات الخفية أيضاً شاباً يقوم بإبعاد كل من يقترب منه ليلتصق به، وتصديه بجسمه للباص الذي كاد يطيح مجموعة من المارة ليركن إلى جانب الرصيف، وفيما يبتعد الناس الموجودون في المكان عن مسار الباص، يقف هذا الشاب متحدياً له ويجبره على تخفيف السرعة شيئاً فشيئاً. تبدو القاهرة من خلال «كايروغرافي» (كلمة تجمع بين القاهرة وتصميم الرقص باللغة الإنكليزية)، مدينة ضيقة لا مساحة فيها لتنقل الأجساد بحرية، فالرقابة الذاتية تبدو فعلاً لاإرادياً في هذه المدينة المكتظة. الرقابة من ملامسة عابرة، وخوف من يد طائشة تتلمس ما لا يعنيها، أو نظرة مغتصبة. وفي خضمّ ذلك ومن خلال متابعة العمل، يظهر كثير من الأسئلة عن الحرية والرقابة وقيود المجتمع وما هو المسموح وغير المسموح في القاهرة اليوم!