لم يهمل شاعر أو كاتب نفسه مثلما فعل محمد الحجيري. هو يهتم كثيراً بما يصدر من دواوين وروايات وبما يقرأ من آداب العالم في ترجماتها العربية المضطردة، أما عندما يحين دوره كمبدع فهو يتلكأ عن المجاهرة بأعماله، يغيب عنها ولا يسعى الى الترويج لها ولو بخفر. لا يعاتب وربما لا يبالي، فهو نفسه لا يعير ما يكتب اهتماماً هو غالباً يليق به. فوضوي ولكن غير إيديولوجي، هامشي يصرّ على تهميش نفسه بنفسه، ولا يحتاج الى من يساعده في المهمة هذه. حتى نصوصه وكتبه لا يبالي بها، اكتملت أم لم تكتمل، احتوت أخطاء على اختلافها، أم خلت من الاخطاء، مُنعت أم لم تمنع... على غلاف روايته «طيور الرغبة» الصادرة حديثاً لم يذكر أنّ له ديواناً جميلاً وفريداً بجوّه هو «منامات هيفا»، ولم يذكر كتابه الفريد أيضاً وعنوانه «صباح ... حكاية تشبه بيروت» وهو مُنع فور صدوره لأسباب قانونية على الأرجح، بعدما لاحقه محامي المطربة الكبيرة أمام محكمة النشر، علماً أنّ الكتاب يُعدّ من أجمل - وأجرأ - ما كُتب عن صباح، وهو يفيض حباً وإعجاباً واحتراماً، ويضمّ من الحقائق التي لم تتوان صباح نفسها عن إعلانها والتباهي بها بلا حرج. سعى الحجيري في هذا الكتاب الذي ربط فيه بين صباح وصورة بيروت، إلى قراءة ظاهرتها في مرآة عصرها، بمطربيه ومطرباته، وبحركاته الفنية والثقافية. مُنع الكتاب ولا أحد يعلم إن كان سيصدر لاحقاً، وبدا منعه الذي تمّ بصمت وبموافقة سريعة من صاحبه، خسارة مزدوجة للكاتب والمكتوب عنها. وكان في إمكان الحجيري أن يستغلّ هذا المنع ليحدث ضوضاء حوله، لكنه لم يفعل. أما ديوانه «منامات هيفا» وهو باكورته، فكاد يمر حين صدوره عام 2009 (دار النهضة العربية) بصمت وخفر، ولم ينل الترحاب النقدي الذي يستحقه. والقليل الذي كتب عنه لم يفه حقه، فهذا الديوان هو بمثابة بادرة شعرية، في ما يتضمن من تنويع على القصيدة وكسر لهالتها وتحرير لها من سلطة النوع ومن التخوم الجاهزة. ولئن استهل الشاعر ديوانه بقصيدة حب، جميلة وغنائية النفس، رثائية المناخ، فهو سرعان ما ينتقل الى ما يشبه النص المفتوح، الشديد الغرابة والطرافة، وفيه يختلط الشعر بالسرد اختلاطاً إيهامياً وواقعياً في آن، حلمياً وفانتازياً... نص صارخ بجماله البسيط والمتوتر، كثير المزالق، أشبه بمتاهة غير مغلقة. نص تحضر فيه الذاكرة والمخيلة، ويتجاور فيه جيمس دين وماركيز وبورخيس وكونديرا وأم كلثوم وهيفا... نص فيه من الغريزة الأروسية ما فيه من شفافية الاعماق ونداوة الشعر وطلاقة النثر والسرد النثري. وليس من المستهجن أن يحار القارئ في طريقة الدخول إليه، فهو لا يخلو من الفوضى المقصودة والمفاجآت. وقد يسأل هذا القارئ: تُرى ماذا جاءت تفعل هيفا هنا في هذا الديوان الغريب؟ في روايته «طيور الرغبة» التي تقارب الحرب اللبنانية مقاربة جديدة وغير مألوفة، يتحدث الرواي في مطلعها عن استحالة كتابة روايته التي كانت تحتاج الى بضعة مقاطع لتنتهي، لكنّ أزيز الرصاص الذي أنبأ بنشوب معركة جديدة يشنها «حزب الله» ضدّ بيروت، وتخلخل ذاكرة أبيه الذي وقع في براثن الالزهايمر، حالا دون اكتمال الرواية. «رصاصات قليلة كانت كافية لأنسف الرواية التي بدأت بكتابتها قبل سنوات»... لكن الراوي يمضي في سرد الرواية التي عجز الكاتب عن إنهائها. إنها اللعبة التي يجيدها محمد الحجيري في الكتابة كما في الحياة، لعبة يتوازى فيها الربح والخسارة.