كان في حقيقة أمره موزَّعاً، فكرياً وعاطفياً، بين ولعه بالحضارات المندثرة من ناحية وكراهيته العميقة والشديدة الإنكليزية في ذلك الحين للإسبان. ومن هنا، كان من الطبيعي للكاتب البريطاني هنري رايدر هاغارد، حين زار المكسيك خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر، أن يَشغلَ فكرُه وضْعُ روايةٍ رأى ما يحيط به هناك مثالياً في الإيحاء بها: رواية يكون موضوعها الأساس التدمير الذي سبّبه الغزاة الإسبان لحضارات أميركا اللاتينية، ولا سيما حضارتا الأزتيك والمايا. وهكذا ولدت واحدة من أشهر رواياته «ابنة مونتزوما»، التي حين نشرت في العام 1891، راحت تحقق من فورها نجاحاً كبيراً، ومع هذا حين توجه هاغارد الى المكسيك في ذلك الحين، لم يكن غرضه الأساس كتابة رواية، ولا حتى فضح دموية الإسبان وقسوة محاكم التفتيش الكاثوليكية: كان غرضه البحث عن كنز خيّل اليه أنه مدفون في مكان ما من المكسيك، منذ ثلاثمئة عام، وأن من دفنه هو خليفة الإمبراطور الأزتيكي مونتزوما. لكن الذي حدث يومها هو أن الكاتب/ المغامر اضطر ذات يوم لأن يقطع رحلته ويوقف بحثه عن الكنز، إذ بلغه نبأ مقتل ابنه الشاب في إنكلترا، وهو حدث عاد لاحقاً وأدخله في أحداث الرواية، إذ كتبها موحياً بأن بطل الرواية توماس (الذي يكاد يكون «أنا» آخر له شخصياً) فقد بدوره ابنه الإنكليزي، إضافة إلى أبناء أنجبهم في العالم الجديد، لعقاب أنزله الله به، إذ حاول خرق قوانين الطبيعة والاستيلاء على ما لا يخصّه. والحال أن هاغارد إنما بنى روايته كلها انطلاقاً من هذه الأمثولة، قائلاً في النهاية أن انهيار الشعوب ليس صدفة، وليس أبداً من صنع شعوب أخرى، بل هو ناتج من إرادة العدالة الإلهية في معاقبة الشعوب على ما تقترف من جرائم. غير أن تأكيد هاغارد هذا الأمر لم يحل بينه وبين إدانة الإسبان والغزاة الكاثوليك في كل صفحة من صفحات هذه الرواية، إلى درجة أن القارئ يصل في بعض اللحظات إلى انطباع مفاده أن الإدانة لا علاقة لها على الإطلاق بكون الإسبان مضطهدين للشعوب الأصلية في تلك المنطقة من العالم، ومحتلين لديار تلك الشعوب ناهبين لثرواتها، بل -وهذا هو الصحيح على أي حال- لها علاقة مباشرة بالتناحر التاريخي بين الإسبان والإنكليز. «إنه الصراع التاريخي بين اللصوص على اقتسام الغنائم»، وفق ما قال مراقب محايد في ذلك الحين! ومهما يكن من أمر في هذا السياق، لا بد هنا من أن نعود إلى رواية هاغارد «ابنة مونتزوما»، لنقول إنها بعد كل شيء، رواية مغامرات تاريخية من النوع الذي كان هنري رايدر هاغارد يحسن كتابته ويلقى قبولاً واسعاً لدى جماهير القراء، بأكثر كثيراً مما هي رواية سياسية بالمعنى الذي قد توحي به الفقرات السابقة من هذا النصّ، علما أن هاغارد كان واحداً من أخصب منتجي هذا النوع من الروايات خلال المرحلة الفاصلة بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين، هو الذي من الصعب العثور على معان وأفكار سياسية في معظم نصوصه الأخرى. ونعرف من ناحية أخرى، وإنما في السياق نفسه، أن عدداً كبيراً من أفلام المغامرات التي تدور رحاها في بلدان غريبة، اقتبس أصلاً من روايات له أو تم تقليده. ومن بين الأعمال المقتبسة عنه بشكل مباشر، يمكن أن نذكر هنا مثل حلقات «شي... أو عائشة» و «مغامرات ألان كاترمان»، التي حولهما ستيفن سبيلبرغ أفلاماً رائجة. في «ابنة موتنزوما»، تختلط أجواء إنكلترا بأجواء المكسيك، وعقلية القرن التاسع عشر بذهنية القرن الخامس عشر والسادس عشر، إذ إن ما يحدث في هذه الرواية هو أن الملكة اليزابيث الأولى، ملكة انكلترا، تطلب من نبيل إنكليزي هو السير توماس، أن يروي حكاية المغامرات الغريبة التي عاشها في أوروبا أيام شارلكان، كما في العالم الأميركي الجنوبي الجديد، حيث كان قد شهد هجوم قوات الغازي الإسباني كورتيس على مناطق تلك القارة وسقوط مدينة تينوكتيتلان، التي كانت حاضرة لمدنية الأزتيك هناك. وتفيدنا الرواية منذ البداية أن توماس عاش في ربوع حضارة الأزتيك أكثر من عشرين سنة من حياته، عومل خلال بعضها كأنه إله وثني معبود، وتعرّض في بعضها الآخر لأن يُضحّى به كقربان... وهو، إذ حدث له هذا، سارع بالهرب ملتجئاً إلى مدينة الصنوبر التي تقع في أحد الوديان البعيدة... وهو هناك عاش بعض الدعة والهدوء قبل أن تقع تلك المدينة بدورها في قبضة الغزاة الإسبان المتوحشين. ولكن ما الذي أخذ توماس الى تلك المناطق؟ هذا السؤال سنعرف جوابه لاحقاً في الرواية، لندرك أنه في الحقيقة إنما أمضى نصف سنوات حياته وهو يطارد قاتل أمه، الذي كان أفّاقاً إسبانياً. ولما كان هذا القاتل المغامر يظهر ويختفي في أماكن وظروف شديدة الغرابة، غير تارك لتوماس فرصة أن يعرف أكثر من أنه موجود، وأن عليه مطاردته، نجد توماس مطارداً له، في البعيد والأبعد دائماً، وسط ظروف تنقله من خطر إلى خطر آخر، لكنها تمكنه في الوقت نفسه من رصد الأحداث التي سيكون هو الشاهد عليها، وسيفصّلها لنا في نصه الذي يكتبه للملكة البريطانية. والحقيقة أن توماس (وبالتالي رايدر هاغارد)، لا يخترع شيئاً من تلك الأحداث، بل يعيشها ويصفها وصفاً تاريخياً موثقاً، إذ من المؤكد أن نية هاغارد كانت، منذ البداية، أن يكتب ما يشبه التاريخ لا ما يشبه الرواية. ومن هنا نجد في الرواية شهادات ونصوصاً مستقاة من أولئك المؤرخين الذين شهدوا أحداث القرنين الخامس عشر والسادس عشر بأنفسهم، ورووها أحياناً بعنجهية وأحياناً بكشف يفضح همجية الرجل الأبيض. ومن النصوص التي اعتمد عليها هاغارد في وصفه التاريخي للأحداث، نصوص ساهاغون وبرتال دياز، التي لا تزال حتى يومنا هذا تعتبر من أفضل ما كتب عن تلك المناطق، التي كانت في ذلك الحين تدعى «إسبانياالجديدة»، وعن مراحل وصول البيض إليها وإنجاز غزوها من جانب هؤلاء، غزواً احتاج كي يتم إلى إلحاق الإبادة بسكان المنطقة الأصليين وتدمير حضارتهم. ولقد كتب رايدر هاغارد روايته هذه بعد عودته من الرحلة التي قام بها إلى المكسيك، ولا سيما إلى منطقة شياباس ومناجمها... وهي رحلة كشفت له، وهو يتفرس كالمبهور، روعة تلك الحضارة العريقة التي لم يُبْقِ منها الغزاة إلا الفتات... لكن رواية «ابنة مونتزوما» لا تكتفي بالطبع بإدانة الغزاة، كما أنها لا تكتفي بأن ترسم صورة وردية زاهية للحضارة البائدة، إذ إن الكاتب، بعد اطّلاعه على تفاصيل تلك الحضارة ومعتقداتها، كرس صفحات عدة يندد فيها بممارسات الأزتيك التضحية بالبشر لمصلحة الآلهة الحجرية... وهو، في المقابل، وفي موقف يبدو شديد البعد من أي تعصب أو ديماغوجية، يضع ممارسات محاكم التفتيش الكاثوليكية في ميزان المقارنة والمقابلة، مع الممارسات الدينية الأزتيكية العنيفة، ليخرج من المقارنة برأي سلبي في نوعي الممارسة اللذين لا يقلّ أحدهما دموية عن الآخر. حتى وان كان في الوسع وضع موقفه المناوئ لمحاكم التفتيش في خانة عدائه التاريخي لإسبانيا بصفته إنكليزياً. ولد هنري رايدر هاغارد، الذي سيحمل لاحقاً لقب سير، في العام 1856 وتلقى تعليماً ابتدائياً وجامعياً رفيعاً ميزه حبه للأدب والتاريخ في شكل خاص. وهو لاحقاً حين بلغ مبلغ الشباب وزع اهتماماته العملية بين الصحافة والاقتصاد والقضاء... والزراعة، وهي كلها أمور نجد آثارها في رواياته وكتاباته الأخرى. وهاغارد بدأ في سن التاسعة عشرة رحلاته العديدة، التي قادته أولاً إلى أفريقيا السوداء، وخصوصاً إلى مصر، حيث ولد لديه الشغف بالتاريخ والحضارات القديمة، وكان من الطبيعي أن يكرس روايته الأولى ل «كليوباترا»... وهو بعد هذا العمل الناجح لم يتوقف عن الكتابة، التي كانت في معظمها على شكل روايات مغامرات وروايات تاريخية، يدور معظمها في بلدان بعيدة، ووسط حضارات مندثرة وتحمل من الغرابة قدراً كبيراً. [email protected]