إذا حدث ووقعت بين يديك بالصدفة رواية «ما تحت البركان» للكاتب مالكولم لاوري وقرأتها وأعجبت بها ثم أردت أن تعرف شيئاً عن كاتبها، لا تحاول أن تبحث عن سيرته في موسوعة للأدب الأميركي معتقداً أنه من بلاد العم سام. صحيح أن كل ما في هذه الرواية من أساليب سرد وأجواء يوحي بأنها لكاتب أميركي جعل بطله إنكليزياً وأن اسم الكاتب نفسه أميركيّ السمات، لكن مالكولم لاوري في الحقيقة إنكليزي، على خلاف ما ستعتقد ويعتقد كثر غيرك. أما سوء التفاهم في شأنه فقد نشأ أول ما نشأ من خلال تشبيه كثر له بإرنست همينغواي، ثم من خلال واقع أن لاوري عاش بالفعل ردحاً من حياته في الولاياتالمتحدة كما في كندا وأنه – إسوة بزميليه ويليام فولكنر وسكوت فيتزجيرالد- أغري ذات يوم بالعمل في هوليوود ككاتب سيناريو دون أن تلتفت هوليوود باكراً إلى روايته الكبرى والأشهر «ما تحت البركان». ونقول باكراً لأننا نعرف أن المخرج الكبير جون هستون حقّق عن هذه الرواية في سنواته الأخيرة فيلماً بالعنوان نفسه إضافة إلى سلسلة أفلامه الكبيرة التي تميزت بكونها اقتباسات أدبية أساسية ( مثل «موبي دك» و»انعكاسات في عين ذهبية» و»الموتى»). ولنذكر أن لاوري قد عاد إلى واجهة الحياة الأدبية في العالم في ذلك الحين بعد ما يشبه النسيان بفضل ذلك الفيلم. لقد شبّه لوري دائماً بإرنست همينغواي ولكن في حين كتب هذا الأخير خلال حياته عدداً كبيراً من الروايات الكبيرة والجميلة فإن أياً من أعمال لاوري، على توازن مستواها، لم يعتبر أبداً مأثرة أدبية أساسية من مآثر القرن العشرين. أما «ما تحت البركان» فإنها في الحقيقة عمل أدبي كبير بيد أن كاتبها لم يعرف أبداً أن يفرض حضوراً لعمل أدبي آخر يضاهيها. ومن هنا سيظل هذا الكاتب يعتبر أشبه بمؤلف لعمل كبير وحيد. منذ البداية لا بد من الإشارة إلى أن رواية «ما تحت البركان» رواية اوتوبيوغرافية استعار فيها الكاتب مشاهد وأحداثاً وشخصيات من حياته الخاصة ليرسم من خلالها تلك «الأحداث» التي تمتد في الرواية على مدى مئات الصفحات لكنها تدور أساساً في خلال يوم واحد هو «يوم الموتى» الذي يحتفل فيه المكسيكيون وسط صخب مدهش بذكرى موتاهم. أما الشخصية المحورية في الرواية فهي شخصية قنصل إنكليزي يتجول في بلدة بركانية صغيرة تعيش الاحتفالات بشكل استثنائي. وهذا القنصل الذي هو في نهاية الأمر، الأنا الآخر للكاتب نفسه، يدعى جوفروا فيرمين وهو يعيش ذلك النهار وسط دوامة ذكرياته ورصده لفشله في حياته ولاسيما استعادته للسقوط المدوّي الذي آلت إليه علاقته مع امرأته ايفون التي يحبها ولا يزال، حتى وإن كان يجد نفسه عاجزاً عن تحمّل ذلك الحب ومسؤولياته. وفيرمين على أية حال يقدم إلينا منذ البداية عاجزاً عن تحمل أية علاقة وأية عواطف وأي تواصل مع الآخرين. أما في خلفية ذلك كله فهناك ذلك الإدمان الذي من الواضح أن مالكولم لاوري إذ يصفه هنا في شتى تجلياته وانعكاساته على حياة «بطله» إنما يرسم لنا بعض اروع الصفحات الذاتية في هذا المجال، إذ نادراً ما كان سبقه كاتب في التفاصيل التي غاص فيها مصوّراً حياة المدمن. هنا في مثل هذه الصفحات يظهر بشكل شديد القوة والنقاء ذلك الجانب الأوتوبيوغرافي من الرواية. علماً بأن هذا الجانب يطلّ بنفس القوة من خلال الظهور المباغت لإيفون في البلدة في وقت كان جوفروا يعتقد انه قد فقدها إلى الأبد. انه ظهور كان يتمناه ويخافه في آن معاً ومن هنا حين يحدث بالفعل يعجز جوفروا أولاً عن تصديق انه حدث بالفعل. ثم حين يصدق يبدأ لعبة الهرب من جديد. ذلك أننا هنا لسنا أمام حكاية ذات نهاية سعيدة على النمط الهوليوودي. إننا في صدد حكاية عن السقوط وعن الموت وعن الإحباط والإدمان. في هذه الرواية استعان مالكولم لاوري بما عاش وبمن يعرف، ليس كي يقدم نصاً وعظياً. بل كي يعبر عن أزمته بل مأساته الخاصة. لكنه – وفي الوقت نفسه – أراد كما هو واضح أن يقدم عملاً روائياً كبيراً يتجاوز حكايته الذاتية وأزمة «بطله». ولعله في إطار ما هنا، أراد أن يقدم على طريقته عملاً يضاهي رواية « يوليسيس» لجيمس جويس. ومن هنا اختياره يوماً محدداً يمتد على اثنتي عشرة ساعة لرسم «الأحداث الرئيسة» في الرواية، علما بأن لاوري سيقول لاحقاً – في لحظة صحو!- خلال حديثه عن الرواية أن موضوعها إنما هو «القوى التي تتحكم بداخلية الإنسان والتي تجعله دائم الرعب من ذاته. ومن هنا فإن للموضوع أساساً علاقة عضوية بسقوط الإنسان وضروب ندمه وصراعه الدائم والدائب من اجل الوصول إلى النور. وكل ذلك تحت وطأة ثقل ماضيه وعبثية مصيره». وهنا إذ يوضح الكاتب هذا، يضيف انه لم يكن من قبيل الصدفة بالنسبة إليه، أن تتألف الرواية من 12 فصلاً وأن تدور أحداثها المحورية خلال يوم يتألف من 12 ساعة». ولعل ما يكمل هذه الصورة في الرواية هو أن الزمن الإجمالي للرواية حتى خارج إطار يومها الرئيسي هو عام «والعام يتألف من 12 شهراً» كما احب لاوري أن يذكّرنا في تصريحه. وهذا ما جعل كل الذين درسوا «ما تحت البركان» في ارتباطها بسيرة كاتبها وكلامه عنها يؤكدون على الطابع الرمزي الأساسي للعدد 12 فيها، وهو ما يحيل طبعاً إلى بعض رموز الكابالا اليهودية ولكن أيضاً وبشكل طبيعي – طالما أن الأحداث تجرى في بلدة مكسيكية تدعى «كواناهواكا» – إلى التقويم الآزتيكي. وهذا الواقع الرمزي في ربطه عيد الموتى المسيحي بالكابالا اليهودية بالتقويم الآزتيكي، يعطي الرواية في حقيقة الأمر أبعاداً إضافية توقّف عندها معظم دارسي حياة مالكولم لاوري وأعماله. وبقي أن نذكر هنا أن هذه الرواية إذ أفلمت من قبل جون هستون في العام 1984 اعتبرت نموذجية في هذا المجال الاقتباسي. فتحت شهية سينمائيين كثر في اتجاه أفلمة روايات كانت مثل «ما تحت البركان» تعتبر عصيّة على الترجمة غير أن أيّ مشروع جدي في هذا المجال لم يتحقق بما في ذلك مشروع كان لدى جون هستون لأفلمة عمل جويس الكبير... وكان من نتيجة ذلك أن ابدل هستون في أيامه الأخيرة ذلك المشروع بمشروع آخر جويسي أيضاً لكنه اقل صعوبة بكثير، وهو أفلمة قصة قصيرة كلاسيكية لجويس عنوانها «الموتى» تمخضت عن فيلم رائع. لكن هذه حكاية أخرى بالطبع. ولد مالكولم لاوري العام 1909 في مدينة بيركنهيد الإنكليزية وهو أبدى منذ صغره ولعاً بالبحر وكراهية للمدارس. ومن هنا لم يكن غريباً له أن ينخرط في البحرية وهو بعد في السابعة عشرة من عمره ويسافر إلى شتى أصقاع الأرض وصولاً إلى الشرق الأقصى حيث شهد اندلاع الثورة الصينية وأُصيب برصاصة في ساقه. ولقد كانت تلك الرصاصة سبباً لعودته إلى الدراسة ما إن رجع من سفر طويل. فالتحق بجامعة كامبردج ونال دبلوم الدراسات الفنية في الوقت الذي راح يتجول في أوروبا طولاً وعرضاً ويكتشف في نفسه رغبة هائلة في الكتابة «كسفر من نوع خاص جداً» كما كان يقول. وفي العام 1932 كان كاتبنا في الثالثة والعشرين حين نشر روايته الأولى «اولترا مارينا» وتزوج للمرة الأولى وبدأ إدمانه على الكحول واهتمامه بالابتعاد بشكل جدّي عن بريطانيا، فتوجّه إلى نيويورك وباريس بادئاً بإيجاد مكانة لنفسه وأدبه في المدينتين اللتين كانت عاصمتي الثقافة المعاصرة في العالم من دون منازع. وكانت تلك المرحلة هي التي قادته إلى هوليوود، لكنه سرعان ما سئم العمل فيها- ك «مرتزق» كما سيقول بكل مرارة بعد ذلك -. فبارح أميركا متوجهاً إلى المكسيك حيث ولدت لديه فكرة «ما تحت البركان» التي لن يكتبها إلا بعد سنوات حين عاش في كندا مع زوجته الثانية مرغريت بونر. وصدرت الرواية عام 1947 لتحقق نجاحاً كبيراً. لكن المؤسف هو أن مالكولم لم يتنبه إلى ذلك النجاح لأنه كان في تلك الأثناء قد غاص نهائياً في إدمانه على الكحول الذي سوف يقضي عليه بعد ذلك بأقل من عشر سنوات. غير أن هذا لم يحل بينه وبين كتابة المزيد من الروايات في فترات صحو متقطعة. وهي أعمال تكتشف ويعاد اكتشافها منذ عقود في مناسبات مختلفة ومن بين أشهرها «مثل القبر الذي يرقد فيه صديقي» و «لونار كوستيك» والمجموعة القصصية «اللهم اصغ إلى صوتنا». [email protected]