إنجاز أكثر من 80% من مشروع الطريق الدائري الأوسط في الطائف    فعالية "حكاية شتاء" تجمع أكثر من 14,000 زائر في قاعة مكة الكبرى    الوحدة يُعلن عن تعرض أنظمة الشركة المشغلة لمتجر النادي ل «الاختراق»    الأمم المتحدة: الأسوأ لم يأت بعد في الصراع بشرق الكونجو    ثنائية توني تمنح الأهلي الفوز على الفتح    جامعة أمِّ القُرى تستضيف الاجتماع التَّشاوري الثَّامن لرؤساء الجامعات    مدير الشؤون الإسلامية في جازان يلتقي مراقبي المساجد    بدء تسجيل رغبات الحج للمواطنين والمقيمين لموسم هذا العام.. إلكترونياً    الفيفا: الإنفاق في الميركاتو الشتوي قياسي    المحترف السعودي "خالد عطية" ينضم إلى سفراء جولف السعودية    نواف بوشل يغيب عن كلاسيكو الأهلي والنصر        فريق الوعي الصحي بجازان يشارك بمبادرة "سمعناكم" لذوي الإعاقة السمعية    ضبط شخص في جازان لتهريبه (60) كيلوجرامًا من مادة الحشيش المخدر    «سلمان للإغاثة» يوزع 492 سلة غذائية في منطقة بإقليم خيبر بختون خوا في باكستان    مصرع شخصين في تحطم طائرة صغيرة في «البرازيل»    «تعليم الرياض» يحصد 39 جائزة في «إبداع 2025»    تتويج السعودي آل جميان بلقب فارس المنكوس    درجات الحرارة الصفرية تؤدي لتجمد المياه في الأماكن المفتوحة بتبوك    لا يحتاج للوقت.. دوران يسجل ثنائية في فوز النصر على الفيحاء بالثلاثة    وزير الصناعة يختتم زيارة رسمية إلى الهند    الفروة السعودية تتوهج في الأسياد الشتوية    أمير القصيم يهنئ تجمع القصيم الصحي بفوزه بأربع جوائز في ملتقى نموذج الرعاية الصحية 2025    "إفلات من العقاب".. تحذير دولي من استهداف ترامب ل"الجنائية الدولية"    اتصالات «مصرية - عربية» لتوحيد المواقف بشأن مخطط التهجير    خطيب الحرم المكي: كل من أعجب بقوته من الخلق واعتمد عليها خسر وهلك    "احمِ قلبك" تنطلق لتعزيز الوعي الصحي والتكفل بعلاج المرضى غير المقتدرين    خطبة المسجد النبوي: من رام في الدنيا حياةً خالية من الهموم والأكدار فقد رام محالًا    مفتي عام المملكة ونائبه يتسلمان التقرير السنوي لنشاط العلاقات العامة والإعلام لعام 2024    أسعار النفط بين التذبذب والتراجع.. لعبة التوترات التجارية والمعروض المتزايد    النمر العربي.. مفترس نادر يواجه خطر الانقراض    السجن 45 ألف عام لمحتال «بنك المزرعة»    مجمع الملك سلمان لصناعة السيارات.. الحلم تحول إلى واقع    العُلا.. متحف الأرض المفتوح وسِجل الزمن الصخري    ملامح الزمن في ريشة زيدان: رحلة فنية عبر الماضي والحاضر والمستقبل    «الشورى» يوافق على 5 مذكرات تفاهم مع دول شقيقة وصديقة    كأس العالم للرياضات الإلكترونية يضم "FATALFURY" إلى قائمة بطولات الأندية لنسخة 2025    «حصوة وكرة غولف» في بطنك !    أمانة المدينة تدشّن نفق تقاطع سعد بن خيثمة مع "الدائري الأوسط"    ما العلاقة بين لقاحات كورونا وصحة القلب ؟    أضرار الأشعة فوق البنفسجية من النافذة    إنترميلان يسقط بثلاثية أمام فيورنتينا بالدوري الإيطالي    لصوص النت.. مجرمون بلا أقنعة    ليفربول يسحق توتنهام ويضرب موعدا مع نيوكاسل بنهائي كأس الرابطة    الأردن: إخلاء 68 شخصاً حاصرهم الغبار في «معان»    سبق تشخيصه ب«اضطراب ثنائي القطب».. مغني راب أمريكي يعلن إصابته ب«التوحد»    كيف كنا وكيف أصبحنا    دور وزارة الثقافة في وطن اقرأ    لماذا لا يجب اتباع سنة الأنبياء بالحروب..!    فقط في المملكة العربية السعودية !    خادم الحرمين وولي العهد يعزّيان رئيس الجزائر في وفاة رئيس الحكومة الأسبق    وكيل وزارة الداخلية يرأس اجتماع وكلاء إمارات المناطق    الملك وولي العهد يُعزيان ملك السويد في ضحايا حادثة إطلاق نار بمدرسة    ثبات محمد بن سلمان    «8» سنوات للأمير سعود في خدمة المدينة المنورة    لبلب شبهها ب «جعفر العمدة».. امرأة تقاضي زوجها    إطلاق برنامج التعداد الشتوي للطيور المائية في محمية جزر فرسان    خادم الحرمين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية والرئيس الألماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عبده خال... عندما يغادر إلى مستودع ينقصه الترتيب
نشر في الحياة يوم 09 - 04 - 2013

تشبه القصة القصيرة عند عبده خال غرفة يمتلك كل شيء فيها جوهراً خاصاً به، وهدفاً وضع الشيء من أجله. وحينما غادر القصة القصيرة غادر غرفته الأثيرة إلى مستودع ضخم يضع فيه الأشياء من دون ترتيب. لم يتخلص من الأشياء غير الضرورية التي خزنها كما كان يفعل في الغرفة. وكانت تقنيته الجديدة أن فصول الرواية تدعم بعضها، وبهذه الطريقة أحب أن يكتب روايته، ومازلت أتذكر تصوره لرواية تتضافر فيها الفصول كما يتضافر شعر الحسناء المضفور.
ونحن نتناقش يهتم عبده بترتيب مشاهد القصة أو فصول الرواية. ولا علاقة هنا للترتيب بما تقترحه الحياة من أسباب ونتائج؛ إنما له علاقة بشيء آخر. ذات مرة أريته نصاً فاقترح أن أقدم مشهداً. لحظتها لم أكن مقتنعاً ووافقت لأن عبده هو الأخبر. وفي البيت جلست أتأمل، لم اقترح عبده هذا. لا بد أن هناك شيئاً ما. لا أعرف ما إذا كان هذا صحيحاً لكنه تخميني آنذاك. فعبده يحب أن تكون مشاهد القصة أو فصول الرواية منسجمة مع بعضها حتى ولو ضحى بالمنطق.
لا يمكن أن أغفل عن المبدأ المهم هنا وهو: لا تكفل السيطرة على الأشياء التي يمكن أن تكون في غرفة إلا بالترتيب. ولا يُعثر على مبدأ الترتيب إلا في الترتيب ذاته، ومن أجل هذا يُحتاج إلى فكرة عن الجمال. كذلك لا تكفل السيطرة على ما يمكن أن يُدرج في القصة إلا بالترتيب، ومن أجل هذا يحتاج القاص إلى فكرة عن القصة، وبلورة القصة تستوجب من القاص أن يكون عارفاً بها. وقد عرف عبده خال بشكل حدسي ترتيب القصة من قراءته القصص؛ ولذلك كان يتضايق من التنظير الزائد. وما زلت أتذكر رد فعله عندما تضجرت من تنظير شخص ما هنا في جماعة حوار. فقال لي: لا تتضجّر. أظن أنك نسيت أنك كنت تفعل مثله قبل أن تكتب.
***
غادر غرفته الأثيرة؛ أعني القصة القصيرة عام 1995. وهو العام الذي صدرت فيه رواية الموت يمر من هنا. من لم يقرأ الرواية آنذاك أو لم يقرأها إلى الآن، لن يعتقد أنها إحدى تحولات الرواية المحلية. لم يكن أسلوبها خارقاً، لكنه أنيق. نقرأ في أول السطور منسوبة إلى عجوز تُدعى نوار «أرض يابسة وقف عليها غراب.. بقرها فتقيحت رجالاً ونساء، وعشش الغراب على رؤوسهم، وعندما التقمهم واحداً واحداً، وطار.. حطّ على نبع قد شاخ، وحين غنى هطلت دماؤهم من فمه وفار الماء».
لم يسبق لأحد أن قرأ ما يشبه بداية كهذه في أية رواية محلية. مؤكد أن هناك روايات قبلها، لكنها في الغالب تبدأ من حال التوازن. يتعرف القارئ في تلك البدايات عالماً مألوفاً؛ لم تتجرد الأشياء والكائنات من علاقاتها المألوفة. الشخصيات مطمئنة. الأمكنة عادية وموصوفة بألفة، والراوي يقدم كل التفسيرات الممكنة للقارئ، وهي بداية السرد الذي يُعبر عنه ب«التوازن».
تشير البدايات السردية قبل بداية «الموت يمر من هنا» إلى أن هناك متسعاً من الوقت لسحر الحكاية كي تتغلغل في القارئ ببطء وتدريجياً. هناك دقة ووضوح في الوصف، وتزويد بالمعلومات. أوضاع إنسانية مطمئنة، واهتمام بأن شيئاً ما سيحدث في عالم مألوف ومعروف. كل هذا من أجل أن يطمئن القارئ إلى أن ما سيحدث بعد هذه البدايات الهادئة هي أحداث عرضية واستثنائية. وعلى العكس من هذا فإن ما تعنيه بداية «الموت يمر من هنا» ليس ما أرادت قوله. يقف قول ومعنى بداية الموت يمر من هنا جنباً إلى جنب؛ لذلك لا يشعر القارئ بالمتعة كما لو كان في عالم مألوف. إنه عالم غير مطمئن، حيث تبقر الغربان الأرض، وحيث تتقيح الأرض الإنسان. لم يعد القارئ يتمتع ببداية الحكاية، إنما هو قلق ومدعو إلى أن يحل لغز الدماء التي تهطل، والماء الذي يفور، مدعو إلى أن «يبحث عن أحجية الغراب الذي يعشش على رؤوس البشر ويلتقمهم ثم يطير». وأن يبذل الجهد ذاته الذي بذله الروائي، وأن يشارك في «خلق» الرواية وإحيائها.
وإذا ما تذكرنا الغرفة والمستودع فعلى امتداد تسع سنوات جلب عبده خال إلى هذا المستودع كل ما لا تسعه الغرفة، أعني أحداث المأساة التي لا تنتهي إلى حل كما تعود القارئ على ذلك، وقد كان هذا أحد تحولات الرواية المحلية التي تستحق أن تُقرأ الرواية من منظورها.
***
هناك خطأ جوهري في الحياة؛ فالجميل فيها لا يفوز دائماً، وكذلك في الكتابة. أتحدث هنا عن رواية «الأيام لا تخبئ أحداً»، التي أعتبرها أفضل أعمال عبده خال وأكثرها ابتكاراً، لكن خطأ الحياة المقيت في ما يتعلق بعدم فوز الأفضل والأكثر ابتكاراً جرف الرواية إلى حد أنها لا تكاد تذكر.
واكبتُ رواية الأيام. وقرأتها قبل أن تنشر. وقرأتها أكثر من مرة بعد أن نشرت. وكنت أشعر بأن كل ما فيها يمتلك جوهراً. الأمكنة والشخصيات والحب التي لا تمتلك أي جوهر في ما أنتج من روايات محلية إلى الآن. كل ما فيها موضوع من أجل هدف مثلما كان يفعل في قصصه القصيرة.
مازلت أتذكر تلك الليلة في مكتبه في صحيفة «عكاظ». قال لي عبده خال وأنا أريه نصاً من بدايات نصوصي. أو لأقل علّق بروح عبده الحميمية التي تمرر النقد: «الإبداع يجب أن يعود في النهاية ليصب في بوتقة الخبرات الإنسانية، وفي المعرفة الجمالية الإنسانية بشكل عام».
وأنا أتذكر هذا الآن، أظن أن هذا ما كان يهدف إليه عبده خال قاصاً وروائياً. وترتب على ذلك أن ما كان يؤكد صورته هو عالمه الداخلي، وذلك سر تميّز غالبية قصصه وبعض من رواياته. وللحق وعندما أصبح العالم الخارجي يؤكد صورته كان من الصعب عليه أن يستمر، وبعد أن فاز ب«البوكر» تمنيت أن يدخل في حال من السبات لكي يخرج منه بشكل مختلف.
وعلى أي حال يُعذر عبده خال في ما مضى من الزمن، فالجموح، والانفعالات، والرغبات، والأحلام الشخصية، والإحباطات، وما اُضطر إلى كتابته كي يُُقرأ ويُعرف كان لها السيادة بحكم الخبرة، وبحكم السن والمرحلة التاريخية. أما الآن، وبعد أن نضج معرفياً وسردياً، فالمطلوب كما أظن كتابة أخرى. عمل ما مثل تلك القصيدة الجامعة والمانعة التي كان الشاعر الصيني في ما مضى من الزمان يكتبها قبل أن يموت ثم يغادر الحياة الدنيا مرتاحاً.
بعد أن حقق عبده خال ما يريد، كالاعتراف بموهبته محلياً وعربياً، والتقدير من الروائيين الكبار، والمقروئية بين فئة عريضة من القراء، وجائزة البوكر. هذه التي أطلق عليها الشاعر ريلكة «النظرة المتجهة إلى الخارج». أقول بعد أن حقق كل ذلك، آن له أن يتجنب هذه النظرة إلى الخارج، وأن ينظر إلى الداخل، وفق قانونه هو. ووفق الضرورة التي تلد الأعمال الأدبية الخالدة.
* ناقد وروائي سعودي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.