رحلت العواصم المغاربية الملفات الأمنية إلى اجتماع وزراء داخلية منظومة «5+5» في الجزائر، على خلفية تنامي المخاطر من طوق الساحل والصحراء. لا جديد في هذا التوجه الذي حافظ على وتيرة الحوار بين المجموعتين المغاربية والأوروبية، سوى أنه يكرس البعد الأمني في التعاطي وقضايا إقليمية شائكة. وبذلك تكون بلدان الشمال الأفريقي انساقت وراء مقاربة أمنية يعتمدها الأوروبيون في حربهم على الإرهاب والهجرة غير الشرعية والاتجار بالمخدرات، في مقابل تراجع المقاربة الإنمائية التي تعتبر جدواها أكثر أهمية. الإرهاب والهجرة والتهريب، وغيرها من الظواهر، لم يكن لها أن تتجذر بالطريقة التي تنامت في منطقة الساحل ومحيطها، لولا التربة الخصبة المتمثلة في غياب سيطرة الدول على حدودها، وانهيار مظاهر الاستقرار، واتساع حدة الفوارق بين الجنوب والشمال. من دون إغفال الأزمات الاجتماعية والفهم الخاطئ للعقيدة الإسلامية ومغالاة النزاعات العرقية والطائفية. وبديهي أنه كلما ضاق الخناق على الحركات المتطرفة لجأت إلى البحث عن ملاذات يتوافر فيها الغطاء الديني والسياسي. إذا لم تكن هذه الأسباب كافية لحمل عواصم الشمال الأفريقي على الكلام بصوت واحد أمام شركائها الأوروبيين المندفعين نحو اكتشاف ما تختزنه المنطقة من موارد وأسواق وحماية أمنية، فأي الظروف يمكن أن تؤثر في خطاب انفرادي ومتردد. وإذ يصرح وزير خارجية الجزائر مراد مدلسي أن الوضع الأمني في المغرب العربي والساحل لا يساعد في تأمين ظروف جيدة لالتئام القمة المغاربية المؤجلة إلى موعد غير محدد. فإنه يعرض إلى جانب أهم من الإشكالات التي تعوق البناء المغاربي. وفي مقدمها أن ما عجزت التحديات الأمنية التي يقر بها الجميع عن تحقيقه، لناحية تنسيق الجهود والمواقف، كيف يمكن لأي تحد آخر أن يدفع في اتجاه أقرب إلى التفاهم والانسجام. بهذا المعنى لم تعد الخلافات السياسية وتباين المواقف إزاء أسبقيات البناء المغاربي وحدها تحبط مساعي التقارب. بل أضيف إليها البعد الأمني الناتج من تطورات الأوضاع في مالي والساحل. وأمام هذا العائق يفرض السؤال نفسه: كيف للدول المغاربية التي تتباعد مواقفها من قضايا إقليمية متعددة الأطراف أن تحاور نظراءها الأوروبيين في مجموعتي «5+5» من دون أن تسقط في مكامن الضعف. فالأوروبيون يعرفون جيداً ما يريدون، وتتسم مواقفهم بالانسجام والتضامن، إلى درجة أنهم يتداعون لنجدة بعضهم في مواجهة أي أزمة. فيما المغاربيون لم يستقر رأيهم على مقاربة محددة إزاء غالبية الملفات. وزراء الداخلية أو الخارجية أو مجلس الشورى المغاربي، أو اللجان القطاعية، كان دورهم يتمثل في إعداد الملفات إلى جانب الخبراء المختصين، غير أن كافة التوصيات والاقتراحات تبقى حبراً على ورق، في حال عدم تصديق القمة عليها. ومنذ حوالى عقدين لم تلتئم أي قمة. فقط يتم الاكتفاء عند ظهور بارقة الأمل بترحيل الملفات إلى المجالس الوزارية. والحال أن وزراء المجموعة الأوروبية في حوار «5+5» في قطاعات القضاء والأمن والدفاع وكافة مجالات التعاون يتوفرون على تفويض سلطة اتخاذ القرار. وحين انبرى الأوروبيون إلى الدعوة إلى اجتماعات رفيعة المستوى، لم يفلحوا في حض القادة المغاربيين على التزام منهجية مماثلة بإرادة سياسية أقوى. ولا شيء يمكن أن يجبر أهل القرار المغاربيين على الانصياع للدينامية الأوروبية المنفتحة، كما لم تكن من قبل، غير التسلح برؤية واقعية وعقلانية تنفذ إلى عمق التحولات التي تفرض التكتل والشراكة والانفتاح. عبر ثلاث محطات على الأقل زادت الحاجة إلى البناء المغاربي. فقد جاء تأسيسه متزامناً وإرهاصات ثورة عالمية عصفت بقلاع المعسكر الشرقي المنهار، تحت ضربات جرعات الحرية ومعايير قيم حقوق الإنسان. وانتفت بذلك عقبات خلافات إيديولوجية كانت تحول دون تقارب بلدان الشمال الأفريقي. وإن كان بعض تداعياتها استمر من خلال اقتلاع آخر جذور الشك والحذر. وبعد مرور أكثر من عقدين هبت نسائم الربيع العربي على سماوات الفضاء المغاربي. ما اعتبر مؤشراً قوياً لناحية فتح صفحات جديدة في العلاقة بين مكونات الاتحاد المغاربي. واختار الرئيس التونسي المنصف المرزوقي القيام بجولة مغاربية فضلها على باقي المحطات، اعتقاداً منه أن ثمار الربيع لا بد أن تزهر وتثمر في موطن الانطلاق أولاً. أما المحطة الثالثة، فتمثلت في انفلات الأوضاع في منطقة الساحل وظهور أزمة شمال مالي التي قوبلت باستقطاب دولي لم يكن من نصيب الدول الفقيرة، لولا المخاوف المتزايدة من انتشار الإرهاب. غير أن البلدان المغاربية، وكان بعضها سباقاً في التنبيه إلى هذه المخاطر، لم تقدر على بلورة مواقف موحدة ومنسجمة، مع أنها أكثر عرضة للتأثر بمضاعفات الأزمة الناشئة. عند تجميع هذه الاستحقاقات، يبدو أن ثمة قوة أكبر تشد بلدان الشمال الأفريقي إلى الوراء. بخاصة أن التبشير بمنافع قيام الاتحاد المغاربي أصبح هاجساً مشتركاً، حتى بالنسبة للأوروبيين.