ينظر بعض المتابعين من رجال المجتمع ونخبته ومن فئاته العادية إلى أن الكرة هي مجال للغبن، فاللاعب يحصل على ما لا يحصل عليه سواه في أي مجال آخر، لا لشيء إلا لأنه ركل وجرى وراء قطعة منفوخة من الجلد! بيد أنّي أحمل تصوراً آخر، إذ أعتقد بأن كثيراً من متابعي عالم الكرة يوافقونني فيه. أصبحت الكرة في هذا العصر مثل ميدان القتال في زمن عنترة بن شداد العبسي، وأصبح اللاعب الصغير البريء شبيهاً بذلك البطل، ذلك الفتى الذي عندما حمي الوطيس، وضاقت السبل بقومه، اضطر سيده إلى أن يقول له: «يا عنترُ... كر... وأنت حر». وكان عنترة يفخر بذلك في معلقته، قائلاً: يدعون عنترَ والرماح كأنها ** أشطان بئر في لبان الأدهمِ. ومع ذلك، فإن عنترة كان يغار من جندب، ويقول فيه هذا البيت: وإذا تكون كريهة أدعى لها ** وإذا يحاس الحيسُ يدعى جندبُ. الكرة هي الميدان الذي تركض فيه، وتستطيع أن تتقدم على من يعتقد بأنك أقل منه، وحين تتقدم، فلا أحد يستطيع أن يظلمك، لأنك تتقدم تحت الأنظار جميعها، ومن هنا، فإن وجود هذا النوع من المساواة في عالم الكرة هو الذي يجعلها بوابة خلفية للفرصة وللحرية، شاء من شاء، وأبى من أبى. ومن هنا، كانت هي المعادل الموضوعي لميدان المعركة قديماً في زمن الجاهلية الأول. في عالم الكرة وحده، يستطيع الشاب الذي لا يمتلك وجهاً وسيماً أن يتقدم لخطبة امرأة جميلة، وذلك شبيه بقصة عمران بن حطان الخارجي الذي من شدة شجاعته ونجدته قبلت أن تتزوجه أجمل نساء العرب. وفي عالم الكرة وحده، يأتي المسؤول والتاجر برائحة العطر والبخور والنعمة المتدفقة من جنبيه، ويتقدم، ليعانق الفقير اللاهث عرقاً وكرباً وحزناً الذي على قدميه غبار الموقعة، وتنضح آباطه بعرَقها. وفي عالم الكرة وحده، يستطيع شاب عاطل أن يحصل على هوية وطنية لا يستطيع أن يحصل عليها جده الذي ولد على ثرى الوطن قبل 70 عاماً. وفي عالم الكرة وحده، «يشحذ» الغني الفقير، فتجد عضو الشرف الشبعان يتقدم من لاعب نحيل تكاد أمعاؤه تلتصق جوعاً، يتقدم إليه راجياً مستعطفاً مسترحماً، يعرض عليه الغالي والنفيس، «ويشحذ» منه (بالمعنى الحرفي ل«الشحذ») أن «يبيض وجهه» الذي لم تنجح «الكريمات» في «تبييضه». السرّ في جمال الكرة ليس أننا نتلهف لأن نرى قطعة دائرية منفوخة من الجلد وهي تغادر خطّاً نحن من رسمناه! السر يكمن في ما هو أعمق وأبعد من ذلك، يكمن في القيمة الحقيقية للشباب، والنشاط، والجهد، ويكمن في الموازين التي تنقلب، إذ العامل يتلقى الشكر والفخر والشهرة والمال حين يحرز النجاح، وليس صاحب العمل من يتلقاها من دونه، وهو مختبئ تحت الدرج أو ملتصق بالحيطان. في الكرة، باب الأمل يبقى معقوداً بقدميك، فعلى قدر قوة ركلتك وتصويبك تنال ما تتمنى، وعلى بعد هذا كله هل نستطيع أن نقول: إن الرياضة هي أولى بوابات «الحرية» و«الكرامة» التي تنشرع في بلدان العالم الثالث التي يحول فيها «الأصل» و«الفصل» و«المال» و«الجاه» و«الواسطة» من دون كل شيء؟ من دون أي تردّد أقول: نعم. [email protected]