منذ آلاف السنين لم يتوقف «النهر العجوز» عن «سرد» حكاياته. ولطالما جلس كثيرون في أحضان ضفيته، مستمعين إلى قصص طينه وطُرف قطرات مائه وأسرار فيضانه وثورته وأقاصيص مده وجزره وذكريات حروبه وانتصاراته، وطيب ثماره وما تجود به ضفتاه من خيرات وحضارات وعادات وتقاليد. ذكريات من عاشوا ومن ماتوا ودفنوا في طميه وأحبوا قوته وسحره وخيراته ونعمه، وسنوا قوانين تقهر المعتدين عليه وتفتك بملوثيه، وألقوا فيه قرابين عشقه ل«عروس النيل، العروس الجميلة التي تهبه الحياة»، تزلفاً وتضرعاً حتى ينعم بشبابه ويفيض بكرمه. إنه النيل الذي لا يهرم أبداً ولن تتوقف حكاياته، ومهما مر الزمان وتعاقبت الأجيال وتعقّدت الأحداث يبقى على جريانه وسريانه وعطائه وحكمته. بعض هذه الحكايات، نبشها فنانون يقصدون النهر يومياً، مسجلين تفاصيله الحية، بلحظات ضعفه وقوته ومواسم انحساره ومهرجانات فيضانه فاخترقوا هذه اللحظات وتلك التجليات والتقطوها بعدسات كاميراتهم وصاغوها بأفكارهم وبلوروها، وأضفوا عليها اقتناعاتهم أو تركوها بكراً (على طبيعتها الغضة)، مستكشفين ومحللين حكايات فوتوغرافية حول النهر وساكني ضفافه على طول امتداد مجراه حتى مصبه في البحر المتوسط، وعرضوها في المعرض الفني الكبير الذي أقيم في الإسكندرية. 17 فناناً اجتمعوا في الموقع الذي يتّحد فيه النيلان الأزرق والأبيض في منطقة المقرن مكوناً نهر نيل مصر العظيم، في ورشة للتصوير الفوتوغرافي من كل بلدان النهر، يجمعون اللقطات الفريدة، ويخلقون عوالم إبداعية تعبيرية من تدفق اللون وعلاقات الكتل شكلياً وأيقونياً مسجلين تجربة فنية ثقافية جديدة رائعة كرّست لإعادة قراءة عادات وتقاليد وثقافات لشعوب ذات أصل مشترك وهوية ثقافية واحدة، وإن اختلفت اللغة ودرجة سمار البشرة. وهدفت الورشة إلى إيصال حضارة مواطني ضفّتي النهر والتحديات الثقافية والبيئية والحياتية التي تواجهم على طول الزمن وعرضه، ولم تقف اللغة ولا خلافات المياه السياسية حائلاً بين الشباب الذي جمع بينه إلهام النهر وعشق الفن وذكاء اختيار اللقطة الفنية. حكايات حكايات أطلقها الفنانون بطول 6650 كيلومتراً لأطول أنهار العالم، فمن أثيوبيا تأتينا حكاية طلاب الإنجيل عبر حكاية دروس في التواضع والزهد من النيل الأزرق عرضها المصور الأثيوبي ساري عمر. وعن حكاية معمل الخلق يروي المصور السوداني الصادق محمد، حكاية صوره التي تغوص بعمق في عالم الخزف وإبداعاته. مينا العزمي وحكايتها في أم درمان، تروي حياة أسرة سودانية تتعرض بصورة خاصة للحياة اليومية للمرأة السودانية التي تسعى دائماً إلى أن تعيش بسلام وهدوء. أما الحكاية المصرية فتحملنا إلى قرية صغيرة عند مصب النيل عرّفنا من خلالها الطبيب الشاب محمد ياقوت على يوم في حياة أسرة في قرية صغيرة يعبر منها نهر النيل إلى البحر، فنتعرف على نمط حياة ساكنيها. حكايات أخرى ساقتها المصورة الفوتوغرافية المتخصصة في تصوير الأزياء والبورتريه سليمى عثمان أظهرت من خلالها الجمال الطبيعي للنهر، بينما رهام حسن خريجة جامعة الخرطوم تناولت في صورها العلاقة الوطيدة بين النيل وحرفة الحدادة التي تلعب دوراً أساسياً في صناعة وسائل النقل النيلية. وهي تقول في هذا: «الحدادة والنيل قصة لا تنتهي».