تصطبغ الحكومة الإسرائيلية الجديدة بلون يميني واضح، وإن ضمت في إطار ائتلافها قوة ليبرالية صاعدة محسوبة موزعة بين يسار الوسط ويمين الوسط، وهي كتلة حزب «يش عتيد» (هناك مستقبل) بقيادة يائير لابيد، ومعها مجموعة من يسار الوسط بقيادة تسيبي ليفني التي تحظى بستة مقاعد في الكنيست. حزب العمل بات خارج إطار الحكومة ليس لأسباب سياسية مباشرة بل لأسباب لها علاقة برغبة نتانياهو في تفضيل التحالف مع آخرين لإبعاد عامل الإزعاج والمشاغبة والابتزاز عن حكومته في حال مشاركة حزب العمل فيها وهو الحزب الذي يملك كتلة في الكنيست مؤلفة من 15 عضواً، مع العلم أن حزب العمل يتفق في كثير من الخطوط العامة العريضة مع حزب الليكود بالنسبة إلى القضايا السياسية وحتى بالنسبة إلى مسألة الاستيطان، على رغم الخطاب السياسي الناعم نسبياً لقادة حزب العمل في القضايا المتعلقة بعملية التسوية مع الفلسطينيين، لكنها نعومة تخفي تحتها موقفاً يكاد يكون مطابقاً لمواقف نتانياهو والليكود. فحزب العمل الإسرائيلي لم يكن معارضاً في الأصل لاستمرار عمليات التهويد والاستيطان، بل لم يصدر عن حزب العمل أي احتجاج أو حتى تأفف من سياسات نتانياهو في هذا المضمار. الحال الداخلية لما يسمى باليسار الإسرائيلي يرثى لها، فالتفكك والتباين بين أطرافه ذات المنابت الفكرية والحزبية المختلفة قائمان بقوة. فمثلاً هناك تيار مؤثر داخل أحزاب اليسار يتماهى مع عتاة اليمين، وقد عبر عن قناعاته بوضوح على سبيل المثل حين شارك حزب العمل رئيس الوزراء السابق إيهود أولمرت من حزب «كاديما» في عدوانه على قطاع غزة في أواخر 2008 وأوائل 2009، حين كشف العدوان على القطاع سياسة النفاق التي دأبت أحزاب اليسار على ممارستها، وخصوصاً حزب العمل. وعلينا أن نتذكر أن ما يسمى بأحزاب اليسار الإسرائيلي تُنظّر في كثير من الأوقات لسياسة القوة والغطرسة الإسرائيلية، وقالت في أوقات سابقة إن نتانياهو لا يستطيع وحده أن يمسك بيده زمام السلطة، فهو في حاجة إلى تأييد من مركز الحلبة السياسية، حيث يقف الكثير من أحزاب اليسار المتناثرة إضافة إلى حزب العمل في موقع الجاهزية لمساعدة نتانياهو في مواقفه بصدد مواضيع الاستيطان. فضلاً عن تبني الشعار الذي كان يستخدمه رئيس الوزراء الأسبق والقيادي التاريخي في حزب العمل الجنرال إسحاق رابين، والذي يدعو إلى إدارة المفاوضات ومواصلة الاستيطان كأنه لا يوجد «إرهاب»، ومحاربة «الإرهاب» كأنه لا توجد مفاوضات. إضافة إلى ذلك فإن رموز التيار المذكور من اليسار الإسرائيلي تبنوا في شكل كامل في فترات ماضية مقولة كان قد أطلقها آرييل شارون قبل رحيل الرئيس ياسر عرفات، والتي تحدثت عن فقدان الشريك الفلسطيني، بل شارك الكثير من أحزاب اليسار في حينها بتظاهرات في تل أبيب دعت فيها إلى التخلص من ياسر عرفات. ومن المنطقي القول إن تماهي ما يسمى بأحزاب اليسار لا يعني أن التجمع الاستيطاني اليهودي على أرض فلسطين التاريخية هو عبارة عن كتلة هامدة جامدة، لا تخضع لعملية التغيير ولو البطيء مع الزمن. فالتجمع اليهودي الاستيطاني داخل حدود الدولة العبرية في فلسطينالمحتلة عام 1948، وداخل المستعمرات المقامة فوق الأرض المحتلة عام 1967، يخضع بالضرورة لعوامل التغيير ومنطق جدلية الواقع في صيرورته، وللحراك اليومي في ظل تعقيدات الصراع في الشرق الأوسط، واكتظاظ روافع الدفع والأحجام في التفاصيل اليومية، وتالياً يمكن تفسير انطلاق أصوات ودعوات البعض القليل من أطياف اليسار الإسرائيلي، وانبعاثها من داخل الخريطة السياسية، وتبنيها لحركات السلام والاحتجاج في إسرائيل، على رغم أنها ما زالت إلى الآن فاقدة الرؤيا البعيدة، وتبقى فاقدة مصدقيتها ما لم تتبنَّ موقفاً واضحاً يلتزم بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، وتلتزم بمبدأ إنهاء الاحتلال. فالخلاف والتنازع بين القوى والحركات السياسية المنضوية تحت أعمدة الفكرة الصهيونية ومنها أحزاب اليسار لا يتعلق بالأهداف العليا، وإنما بوسائل اجتراح الأهداف وترتيب الأولويات على مراحل تاريخية وأساليب مخاطبة الآخرين وحدود بناء التحالفات معهم. فاليسار وكما يُعرّف نفسه يمتلك نزعة ديموقراطية وإنسانية، وسلوكه الحقوقي يميل إلى الاستقامة والجنوح إلى السلم والميل إلى قيم العدالة والتسامح وإنصاف المظلومين والغيرة على منظومة حقوق الإنسان والاعتراف بحقوق الشعوب في تقرير مصائرها. فأين الموصوفون باليساريين في إسرائيل من هذه المثل؟ وعلى هذا، فإن التحولات التي جرت وتجري في المنطقة منذ بدء عملية التسوية عام 1991 والتي تركت آثارها داخل المجتمع الإسرائيلي، وتحديداً داخل التجمع اليهودي، أدت إلى تغيير متواصل في ترتيب نسق الاصطفافات والائتلافات الحزبية الإسرائيلية أكثر من مرة على امتداد العقدين الماضيين. وفي الإجمال، لا يمكن التعويل على دور نافذ أو مؤثر لما يسمى قوى اليسار الإسرائيلي تجاه القيام بأي دور إيجابي على صعيد إعادة النظر بصيغة العملية السياسية التسووية على المسار الفلسطيني - الإسرائيلي حتى لو شاركت في حكومة نتانياهو الجديدة. فالتباينات كبيرة بين صفوف اليسار وبين أفراده تجاه قضايا التسوية ومستقبل الحل مع الطرف الفلسطيني، فبعض هذا اليسار يرفض عودة القدسالشرقية إلى السيادة الفلسطينية، ويرفض بالمطلق حق اللاجئين بالعودة، فاليسار الإسرائيلي ينظر إلى قرارات الشرعية الدولية، وخصوصاً القرار 242 باعتباره «أساساً للتفاوض وليس قراراً للتنفيذ. وأن الكيان الفلسطيني العتيد ينبغي أن يولد وفق مواصفات إسرائيلية». * كاتب فلسطيني