عبر تاريخ جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر، الذي زاد على الثمانين عاماً، كان منطق تحول الجماعة إلى إطار حزبي أمراً غير مرغوب فيه، وسارت على النهج نفسه الجماعات الإسلامية الأخرى. وكمن كرههم للحزبية في تفسيرهم الحر للآية القرآنية، فلم يظهر غير حزب الوسط الذي انشق مؤسسوه عن «الإخوان» في الفترة السابقة لثورة 25 يناير، إضافة إلى دخولهم في تحالفات انتخابية مع حزب الوفد وحزب العمل في ثمانينات القرن الماضي. وبمجرد سقوط النظام السابق أصبح ما كان محرماً من وجهة نظرهم حلالاً تحت دعوى الظرف الطارئ، فأعلنت الجماعة عن تدشين حزبها السياسي تحت مسمى «الحرية والعدالة»، وبالمثل سارع السلفيون إلى تأسيس حزب «النور»، والجماعة الإسلامية أسست حزب «الأصالة والبناء»، وتنوعت الأحزاب ذات المسميات والخلفيات الدينية، إلى أن وصلت إلى 16 حزباً خلال العامين الماضيين في ظاهرة تستحق الدراسة. وكل ذلك في قراءته المبدئية يبدو أمراً صحياً وجيداً، ولكن ما لفت النظر هو أن الجماعة لم تتحول كما كان يطلب منها لتكون حزباً سياسياً وإنما صنعت ما يشبه اللجنة تحت مسمى حزب «الحرية والعدالة» لتكون شأنها شأن لجان كثيرة خاضعة لمكتب الإرشاد. ومن خلال هذا الحزب نجحوا في الانتخابات التشريعية والرئاسية وجاء رئيس الحزب ليكون رئيساً لمصر، وتحولت مؤسسة الرئاسة المصرية بعراقتها لتكون إحدى هذه اللجان الخاضعة في قراراتها لهذا المكتب في مفارقة سوف يسخر منها التاريخ. فما هو متعارف عليه في أنظمة الحكم الحديثة أن الدستور هو المكون الأكبر الذي يسير من طريقه نظام الحكم وأن رئيس الدولة، بمعاونة السلطات الثلاث، يعمل على إدارة شؤون الحكم. بالنسبة ل «الإخوان» بنهجهم هذا في حكم مصر فإنهم يصكون وضعاً غريباً وشاذاً يتعارض كثيراً مع فكرة ومفهوم الدولة نفسها بمؤسساتها. وهو ما يخلق حالة من عدم التوازن ويفسر من بين أسباب كثيرة أخرى عدم القدرة على نجاح «الإخوان» في تدشين حكمهم ومواجهتهم بالمعارضة الشرسة والتظاهرات. فهم هنا يحاولون أن يجعلوا اللامعقول أمراً معقولاً بالديكور الديموقراطي الذي تعلموه من النظام السابق بوجود رئيس منتخب ومجالس تشريعية ولكن بالطريقة التي تضعهم بمكتب إرشادهم فوق الدولة بمؤسساتها. وهذا الوضع المشوه غير المعروف في إدارة الحكم يفسر كثيراً هذا الصدام الذي يحدث ما بين الجماعة التي تحكم تحت ستار الرئيس مرسي الذي يأتي بقرارات تعكس هذه الازدواجية والتي دائماً ما تخلق أزمات مع الشارع والمعارضة وعلى رأسها جبهة الإنقاذ التي استوعب قادتها الدرس وباتت وعود وكلام الحاكم غير محل ثقة بالنسبة لهم. إن جوهر فلسفة الحكم في المجتمع الحديث شهد قفزات في تطور آليات الحكم من وجود المؤسسات والدساتير التي تتيح مشاركة الجماهير بعيداً من الأيدلوجية، فالدولة بمؤسساتها وقوانينها فوق الجميع، في حين الجماعة وفقاً لما يحدث من تفاعلات في المجتمع المصري تريد أن تضع كل هذا تحت تنظيم «الإخوان» الذي لا يخضع لقانون الدولة نفسها حتى الآن. بالتالي فهي مقارنة غير متسقة لا مع تطور الواقع ولا يمكن أن تنفذ إلا فقط في إطار عالم من الديكتاتورية لا يتناسب مع العصر ولا مع الثورة التي جاءت بهم. وإذا كانت ظروف المجتمع المصري ما زالت توجد فيه عوامل تجعله نتيجة للفقر والأمية ينقاد وراء جماعة أو تنظيم يأخذ من الدين ستاراً لجلب شرعية وتعاطف الناس معه، فإن مفعول هذا العامل قل على ضوء هذا الواقع، فما كان يحدث من 40 سنة لا يمكن أن يحدث الآن، فالفقير والأمي باتت الصورة عنده واضحة نتيجة للفضائيات التي يتابعها، ومن ثم لن يجد صعوبة في حال عدم وجود قوت يومه ليخرج في تظاهرة أو أعمال أخرى تفسر بطريق آخر لكونها رفضاً للقائمين عن الحكم. ويكمن السبب في ذلك أنه لم يكن يأتي أحد في يوم من الأيام ويقول له إنك غير مسلم ويجب أن تتبع الشريعة، فهو بتلقائيته يذهب للصلاة ويصوم ويعرف ربنا وينفر من كل ما هو غريب ومتطرف عن دينه، وقضيته الأساسية هي كانت في تحسين معيشته وإيجاد فرص تعليم ثم عمل لأبنائه. وعندما جاء «الإخوان» للسلطة استشاط هذا البسيط عندما رأى هؤلاء الذين يتحدثون باسم الدين يعملون عكس مبادئه، فأصبحت المحاباة والمجاملة واضحة للعيان بسبب الانتماء للجماعة، فهي لا تتورع أن تجور على حقوق الآخرين من أجل تحقيق مصلحة أعضائها الذين أيضاً لا يتورعون أن يكذبون ليحققوا مصالحهم. هذه الممارسات على مستوى الإنسان العادي كفيلة لتجعله يثور ويغضب وهو يشعر بالظلم. لذلك فمؤشرات العصيان في مدن القناة ومحافظات أخرى والتي لم تحدث من قبل حتى في ثورة 25 يناير يؤكد أن هؤلاء البسطاء وصلتهم الرسالة مبكراً وأنه لا خير في الذين يحكمون، لذلك لم يكن غريباً أن يرصد أحد المراكز البحثية أنه خلال شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 2012 حدث ما يقرب من 864 تظاهرة احتجاج بما يعادل تقريباً ثلاثين تظاهرة احتجاجية في اليوم الواحد. ومن هنا فإن محاولة تركيب الجماعة على مؤسسات الدولة المصرية ومن ثم المجتمع، لا يمكن أن تنجح بهذه السهولة الموجودة بها في أيديولوجية وعقلية «الإخوان». فالعكس هو الذي كان سيحدث لو أنهم استوعبوا الواقع وعملوا على تدشين الآليات الديموقراطية. * كاتب مصري