كان اسم الروائي الفرنسي باتريك موديانو مدرجاً بخفر في لائحة الكتاب المرشحين لجائزة نوبل، والسبب على الأرجح فوز مواطنه الروائي ج. ام. ج. لوكليزيو بها قبل ستة اعوام. وبدا فوزه مفاجأة لم يكن ينتظرها الاعلام الثقافي بخاصة الانغلوفوني. موقع صحيفة «ذي غارديان» البريطانية سرعان ما عبّر عن موقف سلبي من فوز موديانو فانتقده مادحاً الروائي الاميركي الكبير فيليب روث الذي كانت الصحافة البريطانية والأميركية تتوقع فوزه. ردّ الفعل «البريطاني» هذا لا يعني البتة ان موديانو لا يستحق الجائزة ولو لم يكن في مرتبة روث وشهرته العالمية وفي الأثر الذي تركه في الرواية الحديثة. موديانو روائي فرنسي كبير، وفرنسيته لا تعني «المحلية» الضيقة الأفق ولا الانغلاق على الذات ومديح الهوية الفرنكوفونية، بل إن نزعته الروائية تميل الى الشك اصلاً في هوية الكائن والافراد، وتسعى الى البحث عن الهوية المفقودة والمنسية. وكم كانت مصيبة «براءة» الجائزة التي وصفت فيها الاكاديمية السويدية صنيعه الروائي ب «فن الذاكرة الذي طرح عبره مصائر إنسانية عصية على الادراك، وكشف عالم الاحتلال الالماني». وصرّح السكرتير الدائم للأكاديمية بيتر انغلوند قائلاً: «عالم موديانو عالم رائع، وكتبه تتحاور بعضاً مع بعض». روائي كبير حقاً، في التاسعة والستين من عمره، عالمه أقرب الى ان يكون نسج الذات المألومة والخيال الظليل، عماده البحث المستمر عن سيرتين: سيرة شخصية شبه قاتمة، لا تخلو من الاضطراب لا سيما في الطفولة والمراهقة، وسيرة أخرى للمكان الذي هو باريس، باريس الستينات تحديداً، المكفهرة سياسياً وأمنياً. وقد وسم طيف والده، الغامض والمطارد وشبه المجهول، سيرته وشخصيته في آن. فهو نادراً ما رآه وجلس معه، ولم تكن لقاءاتهما الا خطفاً في مقاهٍ ومحطات قطار. كان والده مشتبهاً به في قضية اضطهاد اليهود في فترة الاحتلال النازي، وكان عليه جرّاء هذه التهمة ان يعيش في حال من الاختفاء والهروب المستمر. في السابعة عشرة قرر باتريك الفتى قطع علاقته بأبيه نهائياً بعد لقاء غريب به كان مفعماً بالقسوة والألم. ولم تمضِ بضعة اعوام حتى تناهى اليه نبأ رحيل ابيه في طريقة غامضة ولم يعلم بتاتاً أين دُفن. وغياب الاب كان يعني غياب الام، لكنّ عزاءه الوحيد كان في ملازمته الدائمة لشقيقه الذي لم يلبث ان مات في العاشرة من عمره. هذه الملامح المأسوية صنعت قدر باتريك موديانو، إنساناً وكاتباً. وعطفاً على هاجس البحث عن الهوية برز في رواياته وفي طبائع شخصياته هاجس السعي الى فهم العالم بفوضاه وعنفه وحركاته المتقلبة، وكان غالباً ما يصطدم هذا السعي بجدار العجز عن الفهم والاستيعاب. وهذا ما جعل الراوي لديه اشبه بمراقب قلق، مفتوح العينين يبحث عن أجوبة للاسئلة التي تطرحها الاحداث والوقائع الملتبسة غالباً، وكان هذا الراوي يؤدي في احيان دور المؤرخ والمحقق والمنقب. وليس مستغرباً ان تنتمي شخصيات موديانو، جوّاب الاماكن والساحات، التاريخية والحاضرة، الى عالم المفقودين والهاربين والمتوارين والمنسيين الذين فقدوا هويتهم. قال موديانو مرة: «الحياة عبارة عن باقة من الصور القديمة في صندوق الذاكرة». ولم يكن عليه إلا ان ينبش هذه الصور ليعاود تركيبها في مشروع عبثي يهدف الى معاودة رسم الحياة. كتب باتريك موديانو أكثر من ثلاثين رواية، ونالت «شارع المتاجر المعتمة» جائزة غونكور عام 1978 ومنح عام 1996 جائزة الاكاديمية الفرنسية تكريماً لمساره الروائي. تُرجمت روايات له الى لغات عدة ومنها العربية، وأول رواية له بالعربية ترجمتها الصحافية اللبنانية رنا حايك واصدرتها دار ميريت في القاهرة عام 2006. ثم تلتها عام 2008 رواية «مقهى الشباب الضائع» التي اختارتها الملحقية الثقافية السعودية في باريس ضمن لائحتها وترجمها الكاتب المغربي محمد المزديوي وصدرت عن الدار العربية للعلوم - ناشرون، وتلتها «شارع الحوانيت المعتمة» التي نشرتها دار الهلال المصرية عام 2009 بترجمة عبدالمنعم جلال ثم رواية «الافق» التي ترجمها توفيق سخان وصدرت في 2010 عن منشورات ضفاف-بيروت والاختلاف-الجزائر. غير ان تبعثر هذه الترجمات لم يوفر للكاتب الفرنسي حضوراً قوياً في المكتبة العربية، فلم يُقرأ ولم يكتب عنه ويرحب به مثلما يستحق.