وأنا أقرأ الروايات المرشحة في قائمة البوكر القصيرة لهذا العام راعيت، وذلك بعد تتبع لدورات هذه الجائزة منذ بدايتها وقراءة للأعمال التي رشحت خاصة في القائمة القصيرة، أن أهتم بالمضمون والخطاب بعيداً عن الفن وجمالياته، صحيح أن هناك أعمالاً رائعة فناً ومضموناً حازت على الجائزة، إلا أن الفن لم يكن مقصداً، بل جاء تبعاً لهذا، لا يستغرب أن تتجاوز الجائزة كثيراً من الأخطاء الفنية والمعرفية في كثير من الأعمال المرشحة حتى في بعض الروايات الفائزة، ومن قرأ رواية «القوس والفراشة» لمحمد الأشعري سيظهر له جلياً هذا الأمر، ومن اطلع على أسماء أعضاء اللجنة المحكمة في هذه الدورة سيتضح له ما أقصد، ومن سمع البيان الذي خرجت به عند إعلان القائمة القصيرة يدرك أن الفن وما يصحبه من جماليات مهمش تماماً، وهذا طبيعي طالما أن رئيس اللجنة رجل اقتصاد! تعودنا في كل عام أن نتوقف عند بعض العناوين في القائمة الطويلة والقصيرة، هذا العام لم يثر أحد هذه المسألة، في ما أعلم سوى الشاعر والناقد عبده وازن في مقال نشر له في «الحياة»، وأتوقع أن السبب هو أن القائمة القصيرة هذا العام كانت بائسة ومحبطة عموماً، لكني هنا أتوقف مع عملين لروائيين شابين، رشحا للقائمة القصيرة، وهما «القندس» للروائي السعودي لمحمد حسن علوان، الصادرة من دار الساقي، و«ساق البامبو» للروائي الكويتي سعود السنعوسي، الصادرة من الدار العربية للعلوم ناشرون. القندس تتخلى عن العاطفة الرواية إلى منتصفها كانت متماسكة حتى دخلت عليها فصول مجانية، لم تقدم شيئاً للحدث، مما سبب خللاً في بنية النص، مثل الفصول التي تحدث فيها السارد عن دراسته الجامعية، وكذلك الفصول التي سردها ثابت عن الجد. الرواية تخلت عن الأنا المغرقة في العاطفة إلى دائرة أوسع وأشمل على مستوى الشخوص، البطل لم يسلم من الترحيل حتى في هذه الرواية، أما بقية الشخوص فكان حضورها متفاوت بقدر كبير، فيحضر ثابت دون معنى للحضور، وتغيب منى التي انقلبت على النهر والعشب والخشب! الرواية لم تتكئ هذه المرة على اللغة الشعرية، فكانت اللغة بسيطة وخفيفة تناسب محور العمل، وهذا ما جعل الكاتب يمر بمأزق شديد، إذ إن القارئ اعتاد من الكاتب لغته الشعرية التي تميز بها في أعماله السابقة، فكانت تشفع له كثيراً من حيث التغاضي عن الحشو والترهل وبعض العيوب والزلات السردية، وهنا يصبح الكاتب عندما يتخلى عن لغته المعهودة مثل القندس بلا نهر وسد، يصبح مكشوفاً في العراء. أما توظيفه للهجة العامية في الحوار فقد أجاده لولا الارتباك أحياناً، فيدخل في اللهجة الحجازية ألفاظاً ليست من جنسها، أو يسوق الحوار أحياناً بالغة العربية الفصحى من دون مبرر! وعلى رغم هذا فكون التجربة خاضت مواضيع متعددة، وألوناً من السرد، فهذا في صالح الكاتب، ما يسهم في نضج و إثراء التجربة السردية. «ساق البامبو» والتخلص من المآزق بدأ الروائي في الصفحات الأولى بتمرير حيلته السردية، إذ كان مقنعاً جداً أن الرواية مترجمة من اللغة الفيليبينية إلى العربية، وبهذا يتملص الكاتب بذكاء من بعض المآزق الفنية في العمل، وهذه نقطة تحسب للروائي، ثم تنطلق الرواية للتحدث عن الهوية، والتشظي الهائل فيها، والمكان والعرق واللغة والدين والانتماء، تنطلق من ذات عيسى إلى عوالمه الأخرى، يتحدث عن تاريخ عائلته، ثم نشأته وانتقاله إلى الكويت ثم رجوعه إلى الفيليبين في النهاية. محور العمل خصب ومثير، أجاد الكاتب إثارته في شكل جيد، وكان بحاجة إلى العمق، وذلك بتكثيف حديث النفس وتوظيف المنولوج الداخلي باستمرار، لا الاكتفاء بتوظيفه في حوار بين طرفين، أو رسالة، أو كلام إنشائي. المكان سواء في الفيليبين أو في الكويت لم يكن حاضراً في شكل جيد، كان محدوداً جداً على رغم الإسهاب السردي، لم نتعرف على الفيليبين، بقينا نطفو على السطح بعيداً عن العمق، بقينا محصورين في عائلة واحدة وبقاع محدودة، بنفس الوضع أيضاً في الكويت. فنياً العمل يعاني من حشو متمثل في سرد بعض القضايا التاريخية، وفي بعض الرسائل، وكثير من الجمل الإنشائية التفصيلة، وخيانة التوظيف أحياناً، فأسطورة الأناناس التي كانت مقحمة في الرواية حين قرأتها، ستكون أفضل لو وضعها الكاتب بعد هروبه من بيت جده، بعد أن وضع الأناناس على الطاولة، وأوهم جده أنه تحول إلى ثمرة. ذكر بعض الفصول حول تاريخ الفيليبين، أنا كقارئ لا أريد دروساً تاريخية في الحروب والبطولات، أنا أريد الغوص في حياة الناس البسطاء، وهذه وظيفة الروائي. لهذا وكما توقعت فقد ذهب نص الرواية في سرد أشياء لا حاجة إلينا بها، وفي تفاصيل مجانية زائدة، كان بإمكان الروائي أن يكتب رواية في 200 صفحة متماسكة ومحكمة، وهذا أفضل من ذكر بعض الأشياء التي تؤثر في بنية العمل ولا تضفي له شيئاً. لهذا كنت أتمنى لو كرّس جهده في الرواية بعد الحديث عن هويته المتشظية، أن يتحدث عن البدون في شكل أكثر جدية، طبعاً يراعي الفن من دون التورط في المباشرة والتسطيح. أحببت الفيليبين والكويت، أحببتهما أكثر، على رغم أن الروائي كان بإمكانه أن يترك لحضورهما أثراً عميقاً في نفوسنا، الروائي مثقف، والمثقف محتج ومزعج ومتمرد، كان بإمكانه أن يعي أن الرواية تحتاج إلى احتجاج وثورة، وهذا دور الفن، تخيلوا معي لو أن راشد الروائي والمثقف تمرد على عائلته، ولم يفرط في زوجته وابنه عيسى، ثم تأتي الأحدث في غير صالح الطرفين، لماذا لم يستغل احتلال الكويت مثلاً؟ أين الحديث عن راشد المقاوم والأسير؟ مواقف عيسى محبطة وراضخة مع عائلته في الكويت، لماذا لا يستثمر الحدث بخلق تأزم في الرواية؟ لماذا لا يكون عيسى متمرداً؟ تخيلوا كل هذه الأمور لو كانت في الرواية، لكنا أمام عمل ملحمي بحق، لا أعتب على الروائي، لكنها البدايات. تقول إيزابيل الليندي: «ما أحتاج إليه في الشخصيات التي أكتبها في رواياتي: قلب شغوف وعطوف، أحتاج غير النمطيين، المنشقين، الخارجين، المغامرين، والثوار، الناس الذين يحبون طرح الأسئلة والالتفاف على القانون، وأخذ المخاطرة. بصراحة الناس الجيدون الذين لهم رؤى نمطية لا يصنعون شخصيات جذابة تصلح للرواية» الرواية حدثها مهم، ولغتها بسيطة، ومقنعة من حيث الأحداث وترابطها، لكنها غير مرضية، ثم كانت الخاتمة رائعة وخاصة في توظيف المباراة في الصراع الذي كان يعيشه، هي لعبة بالفعل، لكنها عند من يعيش هوية متشظية، هي نوع من الألم والحسرة والخيبة والصراع الذي ينتج منه الكثير من الأسئلة المعلقة. على رغم كل ما ذكرته عن الروايتين إلا أني أزعم أنهما أفضل ما في القائمة القصيرة، فناً ومضموناً، وأعتقد أن وصولهما إلى القائمة القصيرة بحد ذاتها هو احتفاء بعملين جديرين بالمنافسة. أتمنى أن يفوز أحدهما بهذه الجائزة، لأن هذه الجائزة تحديداً تعني لروائي شاب في بداية طريقه الشيء الكثير.