في وقت كتابة هذا الموضوع كانت أبواب المصارف القبرصية لا تزال مقفلة. ويعود سبب تجميد القطاع المصرفي إلى المخاوف التي لها ما يبررها من اندفاع المودعين في وقت واحد إلى سحب جميع إيداعاتهم، وانقضاض الناس خلال يوم واحد لسحب جميع إيداعاتهم لا محالة يؤدي إلى كارثة مصرفية، لأنه لا يوجد مصرف واحد في أي مكان من المعمورة يحتفظ بجميع ما يودع فيه من ودائع نقداً. نعم، الاحتفاظ بجميع ودائع المودعين نقداً في خزائن أي مصرف يؤدي إلى إفلاسه، فالمصرف مثله مثل أي منشأة اقتصادية أخرى، لا بد أن يكون له مصدر دخل يُمكِّنهُ من الوفاء بتكاليف نشاطه. ومصدر دخل أي مصرف تجاري هو ما يحصل عليه من عمولات أو متاجرة بوجه من الوجوه، كبيع وشراء العملات الأجنبية، أو منح القروض والحصول على فوائد الإقراض، سواء كانت بصفة فوائد صريحة مباشرة أم بصفة بيع وشراء السلع للحصول على ما يماثل الفوائد بطرق غير مباشرة. فلا بد من ثقة الناس في أي مصرف حتى تستمر ودائعهم فيه ولا يتم سحب جميع الودائع خلال يوم أو أسبوع أو شهر. ومصدر القروض وكل المبالغ التي تتم المتاجرة بها بأي صفة كانت هي ودائع المودعين، سواء كانت في الحسابات الجارية بمقابل أم من دون مقابل أم في ودائع آجلة. قبرص بلد صغير، لا تتجاوز قيمة اقتصاده الكلي أربعين بليون يورو في السنة، وهو أقل من مجموع مبيعات شركة متوسطة الحجم في ألمانيا أو بريطانيا دع عنك الولاياتالمتحدة. ولكن هذا البلد الصغير يحتل موقعاً استراتيجياً من النواحي العسكرية، ولذلك توجد فيه قواعد بحرية وجوية عدة كانت مهمة جداً خلال الحرب الباردة، ولا تزال مهمة للدفاع عن أوروبا من احتمال تهورات ديكتاتور كوريا الشمالية أو أشباهه. وأهم مصادر الدخل في قبرص هي قطاعا المصارف والسياحة. وفي هذه الأيام (شهر آذار/ مارس 2013) يمر القطاع المصرفي في قبرص بأزمة حقيقية، سببها كما حدث من قبل في دول أوروبية أخرى من أعضاء الاتحاد الأوروبي، جشع القطاع المصرفي الذي تعلّم من لصوص نيويورك أدوات مهنتهم الحديثة من مشتقات ومشتقات المشتقات أدت إلى إقراض 30 أو 40 أو حتى 50 يورو في مقابل كل يورو واحد يحتفظون به كجزء من ممتلكاتهم بصورة من الصور. ولسبب من الأسباب غير الواضحة في الوقت الحاضر تصاعدت الفوائد على قروض القطاع المصرفي القبرصي، ما خلق للقطاع كافة أزمة سيولة. ففي هذا البلد الصغير جداً أكثر من خمسين مصرفاً بين مصارف قبرصية وفروع لمصارف أجنبية. ونظراً إلى أهمية القطاع المصرفي لجأت الحكومة القبرصية إلى المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي، أملاً في قروض تنقذها من أزمة سيولة خانقة، فاقترح المركزي الأوروبي فرض رسم لمرة واحدة على الودائع في المصارف القائمة على أرض قبرصية، للإسهام في توفير السيولة الضرورية للمصارف في قبرص من دون أن يكلف ألمانيا، الدولة الأهم في اتحاد أوروبا النقدي، شيئاً كثيراً. ولكن السبب الذي جعل قبرص مركزاً مالياً عالمياً، هو أن السلطات القبرصية لا تفرض أي رسوم لا على الودائع ولا على التحويلات من أي نوع، لا على المصارف الوطنية ولا على غيرها. وإعلان فرض الرسوم سيؤدي حتماً إلى إرعاب المودعين واندفاعهم جميعاً إلى المصارف للحصول على ودائعهم أو تحويلها إلى أماكن خارجية آمنة، حتى لو لم تتجاوز إيداعات الفرد خمسة آلاف يورو. أضف إلى ذلك أن الرسوم على الودائع تعني مخالفة أنظمة الاتحاد الأوروبي النقدي الذي يضمن أمن وسلامة جميع الودائع التي لا تتجاوز 100 ألف يورو. ولزيادة هذه الأزمة المعقدة تعقيداً، للروس في قبرص مصالح تجارية، وفي المصارف القبرصية ودائع كبيرة لمواطنين روس. ولذلك لجأت الحكومة القبرصية إلى موسكو أملاً في الحصول على قروض طويلة الأجل، أو هبات لحل أزمة القطاع المصرفي القبرصي. وملخص الموضوع، ان أزمة القطاع المصرفي القبرصي لا تعدو أن تكون امتداداً للكارثة المالية التي اضرم نارها لصوص القطاع المالي في نيويورك، حتى أصاب لهيبها أو حتى شرارة من شراراتها العالم أجمع. ولا يوجد حل مستدام لهذه الأزمة غير توفير مزيد من رأس المال للمصارف القبرصية لتوفير السيولة ولإعادة الثقة بطريقة من الطرق. ولعل أهمية قبرص الاستراتيجية تدفع الروس للإسهام في حل الأزمة في مقابل تسهيلات عسكرية للأساطيل الروسية، ثم للدفاع عن ودائع المواطنين الروس والمنشآت التجارية الروسية. * أكاديمي سعودي